منذ أكثر من ثلاثين عاما، نلت بركة معرفة نيافة الأنبا موسي أسقف الشباب، ومن الوهلة الأولى للقاءنا الأول، أدركت أنني أمام أحد آباء برية شهيت في عصرها الذهبي روحيا، مواطن مصري يدرك رائحة الأرض ومعني الإنسان وعبق الروح، لم أصدق أن هذا الراهب الذي أخشوشنت كفاه من عمل الدير كان طبيبا، ولكن حينما قطعت كلماته جدار الصمت، قادتني إلي عالم مكتبة الإسكندرية القديمة، حينما كان الأعلم هو الأقدس، والأقدس هو الأعلم.
واستطاعت الكنيسة حين ذاك تقديس العلم وعلمنة القداسة، وسبقت في ذلك العالم شرقا وغربا، تلك هي الخلفية التي قادت هذا الراهب القادم إلينا من القرن الرابع إلي أسقفية الشباب في القرن العشرين، وتابعت عن كثب ما يقدم في الأسقفية، لم يكن مجرد أنشطة واحتفالات ومهرجانات، بل وجدت أن الأسقفية تعد محمية روحية، للحفاظ علي قيم تكاد تكون قد اندثرت من مجتمعنا وكنيستنا، زرع صاحب النيافة أشجارا كثيرة نمت وكبرت وأثمرت وظللت سماء الوطن والكنيسة واحتمت بها عصافيرا كثيرة، مثل سمير مرقس، نبيل مرقس، فيفيان فؤاد، حنا جريس وآخرين..
في بستان الكنيسة العتيدة غردت طيورا كثيرة، من مختلف الأديان والمذاهب، الراحل أحمد عبدالله روزه، الراحل جورج عجايبي، أحمد بهاء الدين شعبان، عماد جاد، أمير سالم، جورج إسحق، أبوالعلا ماضي.. وآخرين، وهكذا فتحت أبواب الكنيسة للوطن وساعد الأنبا موسي الشباب علي الخروج بالكنيسة للوطن وليس من الكنيسة للوطن.
كل من تتلمذ وخرج من عباءة الأنبا موسى تحول إلى إنسان وطني يجسد بوطنيته مجد الله الحي، ويؤكد أن لاهوت الكنيسة لا يتناقض مع لاهوت الوطن، ولذلك من يحصي المواطنين المصريين الاقباط الذين ثاروا في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، سيجد في مقدمتهم أبناء وأحفاد بالروح والتعليم للأنبا موسي، أبناء دراسة القبطية الوطنية، هؤلاء الذين كانوا يرفعون علم مصر وينكرون ذواتهم، دون ضجيج أو "شو" إعلامي، أو مكاسب رخيصة، كما يفعل البعض من تحويل "القبطنة" من هوية روحية وطنية إلى مهنة سياسية للتكسب، وأصبحت علاقتهم بالكنيسة حق الانتفاع والجلوس في مقدمة الصفوف بالأعياد لتلقى التهنئة ليس إلا.
تحية لهؤلاء التلاميذ الذين ليسوا أفضل من معلمهم، ولازالوا يسيرون على نهج معلمهم الأول المسيح الذي قادهم الي منهجه الأنبا موسي. تحية وصلاة وامتنان لنيافة الأنبا موسي الذي ظل طوال نصف قرن كما قال داود النبي "كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، وكل ما يصنعه ينجح".
جسد نيافة الأنبا موسي تلمذته لمعلمه الأول المسيح طما جاء في كتبه الـ35 ومقالاته وعظاته التي تتجاوز الالاف ومنها:
" تعالوا نلتقي بمسيح القيامة المجيد!! ندخل في زمرة تلاميذه الأطهار...في العلية.. أو على بحر طبرية.. أو في الجليل.. أو على جبل الزيتون!! لنرى مسيحًا حيًّا: جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ...فها هو رب المجد يسوع، بنفس ملامحه الأصلية، مع مسحة نورانية من جسد القيامة، يدخل إلى العلية والأبواب مغلَّقة.. وما أحلى أن يكون الرب يسوع في وسط قلوبنا، وفي محور حياتنا!! وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ!...فطريق السلام في حياتنا لن يكون إلا بالمسيح، وفي المسيح.هو الذي يقول لنا: «سَلاَمٌ لَكُمْ»، ثم يلقي بسلامه الإلهي في داخل قلوبنا وعقولنا!! ألم يقل لنا من قبل: «كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِىَّ سَلاَمٌ» (يو 16: 33)؟ ألم يقل لنا: «سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ، سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يو 14: 27)؟ ألم يقل عنه معلمنا بولس الرسول: «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا» (أف 2: 14)؟ يقصد مصالحة اليهود والأمم في شخصه وفي صليبه. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ..
لقد دخل الرب يسوع إلى العلية، والأبواب مُغلّقة، إذ كان قد قام بجسد نوراني وروحاني، وما أسهل أن يعبر النور من زجاج النافذة، دون أن يحتاج إلى ثقب!!ولكن الرب علم بما يمكن أن يفعله عقل الإنسان، إذ قد يتساءل: هل هذا هو المسيح قائمًا؟!
ربما يكون ظهورًا من ظهوراته، أو منظر خياليًا؟! هل هو بجسده الحقيقي؟! كيف يدخل والأبواب مُغلّقة؟ وكيف يرينا يديه ورجليه الآن؟! بل وكيف يحس توما يديه ورجليه وجنبه، وكيف يأكل معهم؟! دخل و«الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً»... بالجسد النوراني.و«أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ»... حينما أعطى جسده النوراني أبعادًا حسية، لفترة مؤقتة، حتى يؤكد لتلاميذه أن الجسد النوراني هو نفسه الجسد الأصلي، ولكن بعد القيامة يصير نورانيًا. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا...إذ بعد أن عايش التلاميذ قيامة الرب... وكانوا قد عاشروه عن قرب طوال مدة خدمته على الأرض... (أ) رأوا معجزاته. (ب) واستمعوا إلى تعاليمه. (جـ) وعاينوا قوة لاهوته. (د) وأخذوا منه قدرة قهر الشياطين وإتيان المعجزات. صار واجبًا عليهم الآن، بعد أن صاروا شهودًا للقيامة المجيدة أن يبشروا به بين الأمم... "
وولد إميل عزيز (الأنبا موسى) في 30 نوفمبر 1938 بأسيوط، وحصل على بكالوريوس طب وجراحة جامعة عين شمس، عمل طبيبا بشريا خلال 1962-1963، وشماسا 1963-1975، وراهبا 1975-1978، ثم أسقفا 1978، عمل رئيسا لدائرة التربية بمجلس الشباب في مصر، كما ساهم في إقامة مؤتمرات للشباب القبطي بالمهجر في اوروبا وكندا وأمريكا وأستراليا لربطهم بالوطن الأم.
للأنبا موسى مؤلفات منها: “كيف تخدم الشباب، مدخل الى الأناجيل تفسير رسالة رومية، تفسير سفر الرؤية، كيف اتخذ قرارا، الشباب والأسرة، كتب عن الميلاد وقيامة السيد المسيح، مثالات بمجلات الكرازة وطني ورسالة الشباب الكنسي. حضر مؤتمرات مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط ورابطة الشباب الأرثوذكسي في العالم والرابطة العالمية للطلاب المسيحيين”.