«فَنَظَرْتُ، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلًا، وَخَرَجَ غَالِبًا وَلِكَى يَغْلِبَ» (رؤيا 6: 2)
من بين ألقاب المسيح: «الغالب»، ومنها الحمل «حمل الله» ومنها الأسد «الخارج من سبط يهوذا» ومنها البانطوكراطور «الضابط الكل أو كلّى القدرة»، الفتى «مجد فتاة يسوع» والفادي والمخلص والناصري والمسيا والديان والحق وغيرها.
ونحن نحتفل في بداية أسبوع الآلام بالشعانين حيث اسُتقبل المسيح كالغالبين، ونحتفل به كغالب أيضًا، في الأحد السادس من الخماسين لأنه غلب الموت، ونحن ممتنين له طوال الوقت لأنه غُلب من تحننه، وفي سفر الرؤيا حيث الحفل العظيم «عرس الكنيسة والمسيح»، ظهر المسيح وهو خارج غالب ولكي يغلب.
وقد لفت انتباهي في أحد الشعانين استخدام الخوص بشكل رئيسي مع أغصان الزيتون ونبات الآس العطر، ليناسب الاحتفال بالمنتصر الآتي باتضاع، فشكل الخوص وهو قائم فيه شموخ، مثل اليد المرتفعة لأعلى بأصابعها الخمسة، وبينما أشير بأغصان الزيتون إلى السلام الذي يحل بدخول الملك، وأشير إلى الأغصان العطرة بجو البهجة الذي يضفيه وجوده، فإن السعف- ومنذ أمد بعيد- يشير إلى النصرة.
وقد كانوا يستقبلون بالسعف: الملوك والرؤساء والبطاركة والأساقفة والفاتحين أو الراجعين بسلام، كما كانت من بين الهدايا المتبادلة بين الملوك قديمًا «السعفة المصنوعة من الذهب»، ومنهم ديمتريوس الثاني في تحالفه مع سمعان المكابي «1 مكا 13»، ومنهم هيرودس الملك الذي أهدى الهيكل سعفة من الذهب.
كما كان الغالب من الرياضيين قديما يهبونه سعفة رمز النصرة، وصارت السَّعَفَة الذَّهَبية «بالفرنسية Palme d'Or» هي أعلى جائزة تمنح لفيلم في مهرجان كان السينمائى، وقد بدأ منح هذه الجائزة في سنة 1955.
ولا يفوتني هنا أن أنبه أن استقبال الأكليروس بالكشافة والإعلام والطبول والتصفيق السباعي، هو أمر غريب عن التقليد الكنسي، وإنما يناسب في الاحتفالات الأخرى ذات الطابع الوطني وبعض أنشطة أخرى، أما استقبال الأب البطريرك والأب الأسقف فيكون بالألحان التي تقال للسيد المسيح، مثل افلوجيمينوس الذي قيل للمسيح هنا في الشعانين «مبارك.. خلصنا»، وكذلك لحن ملك السلام لأنه يمثل أيضا حضور المسيح.
ولكن ما هي العلاقة بين النصرة والسعف، ولماذا لم يكن استقبال المسيح يشجر السرو أو الأرز أو الصفصاف أو الأثل العملاق، كرمز للنصرة؟ السبب ببساطة هو أن السعف وهو قائم يتخذ شكل حرف الـV الذي صار رمز النصرة، فإن الحرف العاشر من الأبجدية اليونانية هو «I» (حرف اليوطا) أول حروف الاسم ايسوس يسوع وهو القائم منتصرًا، إذ صارت القيامة ركيزة وعمود الكرازة، حيث كرز الرسل بالمسيح قائما من الأموات، وفي الأيقونات القبطية القديمة عمد الايقونوجراف «الرسام» الى جعل يدي المسيح مرتفعة قليلا متخذة شكل حرف الـV وليست في وضع أفقي.
ومما هو جدير بالذكر أن شكل أصابع اليد عند رشم الصليب قديمًا، كانت تجعل الإبهام عند العقلة العاشرة، حيث حرف اليوطا اليوناني «I» والذي يشير إلى يسوع «Ihcouc»، بينما اصبعا «السبابة والوسطى» في وضع حرف ني اليونانية «V» اختصار «ني كا» أي الغالب، وهذه هي الطريقة السليمة لوضع الاصابع عند رشم الصليب، فالمسيح منتصرا بالصليب.
وقد حرص الرسام القبطي واليوناني على كتابة لفظة «الغالب» على أيقونة الصلب، «نى كا- NI-KA» أي الغالب وحرف النون في اليونانية شكل حرف الـV الإنجليزية. بينما كتبها الرسام القبطي «بي اتشرو» أي الغالب أيضًا، وهكذا صار السعف يرمز إلى المسيح الغالب. كما أن كلمة الغالب أو المنتصر في اللاتينية تبدأ أيضا بحرف الـV أى «Vectoriom»، وهكذا فإن كلمة فيكتور ومنها بقطر وتعني المنصور أو المنتصر، تبدأ الكلمة بنفس الحرف V.
ومن هنا اتخذت جميع الثقافات هذه العلامة كرمز النصرة، يرسمونها بأصبعهم ليعبروا عن الانتصار أو الرغبة في الانتصار، حتى النساء والأطفال عندما يلتقطون الصور يسجلون أنفسهم منتصرين.
هكذا دخل المسيح أورشليم غالبًا وخرج غالبًا ولكي يغلب، وحتى وهو مصلوب كان قائمًا.. كأنه مذبوح.. لقد نظر أحد عتاة المضطهدين إلى يسوع المصلوب قائلًا: «لقد غلبتني أيها المصلوب».
إن المسيح الذي غلب من تحننه، قد غلب العالم والشيطان والخطية والمرض والموت: بل «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (1كو 15: 54) وكل من يحيا مغلوبًا من محبته ومن اتضاعه، لابد وأن يغلب، يقول الرب: «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤ 21 3) و«مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا» (رؤ 21: 7).
الخلاصة: «من يضبط نفسه فهو غالب، ومن يختار أن ينهزم بإرادته للآخر فهو غالب، فما لم يكن المسيح قد سمح لهم بأن يقبضوا عليه لما استطاعوا، لقد اختار التوقيت والكيفية والمكان تدبيريا، ولم يفرض عليه شيئا منها».
وأنت: «انهزم بإرادتك، احتملوا الظلم لكن لا تقبلوه، وإلا فسيقال هذه شهوة نفوسكم فاشكرونا، ومن ثم فاشكروا يهوذا الذي أسلمه».
كل من يذاكر هو ناجح، وكل من يحارب فهو منتصر، وكل من يجاهد فهو بلا شك غالب، وكل من يُغالب فهو «غالب»، وهكذا نحن غالبين به ومنتصرين وأعظم من منتصرين..