"سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذلٌ، وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطانْ، وقنعت يكون نصيبي في الدنيا.. كنصيب الطَير، لكن سبحانك حتى الطير لها أوطانْ"، مقطع من قصيدة الحانة القديمة، للشاعر العراقي الكبير مظفر النواب الذي وافته المنية الجمعة 20 مايو بدولة الإمارات العربية بعد مشوار إبداعي حافل، قدّم خلاله مجموعة من الأعمال الشعرية التي ستظل باقية في الوجدان العربي، وشاهدة على لحظات مفصلية في عمر الأمة ومؤرخة لها.
نعاه النُقاد والشعراء، ولكن كانت القصدة ناعيه الأكبر، تلك الصديقة الصادقة المرافقة له طوال حياته، فقده الشعر ورثته القافية، وخيّم الحزن على قطاع كبير من أبناء الأصالة والكلمة الصادقة والموقف النبيل في الوطن العربي.
"البوابة نيوز"، تواصلت مع عدد من الشعراء والنُقاد الذين نعوه نعي العزيز، معبّرين عن فقدهم ومرارته، وعن جمال التجربة الشعرية للراحل وغزارتها.
في البداية قال الناقد الكبير الدكتور حسين حمودة: مظفر النواب صاحب تجربة مسكونة بالتحولات والمنعطفات العاصفة، قبل ميلاده وبعده، وموصولة وبروح الشاهد على هذه التحولات والمنعطفات، وإن ظل صوته خلالها واحدا، مدافعا عما ظل يؤمن به، مناوئا لكل ما شهده ورآه، وطبعا لكل ما عاناه، في حياة سياسية واجتماعية محتشدة بالمثالب والانهيارات. وقد اختار أن يكون شعره شاهدا صريحا إلى أقصى ما تكون الصراحة، حادا إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه الحدّة.. وفي هذا كله كان يذهب دائما إلى الأطراف.
وأضاف الناقد الكبير، على كثرة ما كتب مظفر النواب من ألوان الشعر، بالعربية الفصحى وبالعامية العراقية، في مجالات شتى، وعلى ما يمكن ملاحظته من تاريخ للموازاة بين الارتحالات التي تقاذفته بين السجون والعواصم، والارتحالات المتنوعة في قصائده.. فإن ذيوع صوته ارتبط أكثر ما ارتبط، على نحو ثابت تقريبا، بقصائده السياسية التي تشبه الوخزات والصفعات المصاغة بروح الإبداع. وفي هذه الوجهة استطاع أن ينتزع لنفسه، ولشعره، مساحات كبيرة وجديدة للحرية لم تكن أبدا متاحة في الحياة ولا في الشعر. والثورة التي ظلت تلازمه كحلم لم يتحقق في الواقع، ولم يولد خارج الكتابة، كانت ماثلة ومتحققة، بوضوح كبير ومباشر، في عدد كبير من قصائده التي اختارت أن تسلك سبيل الصرخات المدويّة في عالم غارق في السبات.
وقال الشاعر المبدع سامح محجوب، إلى الأبدية رحل آخر المنشدين العظماء الذين آمنوا بالقصيدة طوطمًا وسلطة، رحل مظفر النواب ابن المنافي والسجون رحل آخر عمالقة الجيل الذي عاش في سجن نقرة السمان والحلة والمنفى أكثر مما عاشوا في بيوتهم وبين أهلهم، الجيل الذي كان منذورًا للغربة والاغتراب، الجيل الذي عاش العراق وتنفسه وآمن به وطنًا وحجرًا وإنسانًا فكان مرآةً لنكباته وتقلباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وأضاف صاحب ديوان "الحفر بيد واحدة"، رحل آخر أمراء الصعاليك رحل سليل الشنفرة وعروة بن الورد والسليك بن السلكة والحطيئة صوتًا شعريًّا وتجربةً ومسلكًا، تمرد وخرج على الجميع رافضًا أن تكون قصيدته بوقًا لحاكم أو سوطًا لجلاد فكان أن خبّأ الفقراء -الذين آمن بهم- صوته وقصيدته في صدورهم وحناجرهم ليجهروا بها كلما قهرتهم الحياة وظلمهم أباطرتها، لم يقف كثيرًا أمام كلماته ليهذبها ويغمسها في إناء المجاز بل تركها مسنونة كحراب طائشة في معركة كبيرة لتنال من كل من باعوا وخانوا أهلهم وأوطانهم، رحل مظفر النّواب أحد الصارخين في البرية رحل الشاعر الصاخب الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
وقال الشاعر أحمد عايد، في فترة من حياتي كانت لي صديقة مقربة جدًّا، كانت تلهج بذكر مظفر النواب؛ كانت مهووسة به، وتقدمه علىٰ كل أحد، وكانت بوابة قربي إلىٰ مظفر، كانت تعلق صورته في دولاب ملابسها، وتضع مطبوعات مختارة من شِعره علىٰ حوائط غرفتها. بالطبع كنت أعرفه من قبل أن أعرفها، لكن لم يشغلني إلىٰ هذه الدرجة.
وأضاف صاحب ديوان " كما تصف المياه الغزالة"، لم يكن مظفر شاعرًا عابرًا، ولن. فلقد استطاع أن يكون صرخةً صريحةً في زمنٍ يداهن شعراؤه.. كان صوت الشعب لا السلطة ولا المثقفين.. صوتًا حقيقيًّا لا يعرف الزخرفة والبهجة، يتقن اللوعة والجعجعة.
وواصل عايد، لم يمت مظفر اليوم، بل مات مرات ومرات.. كثيرون سألوني بعد خبر وفاته.. كنا نظن أنه مات منذ زمن! مات مظفر حين ظلمه مجايلوه وأقرانه. مات مظفر حين أُخفيت قصائده عن أعين الناس. مات مظفر حين تم تجاهله إعلاميِّا مرات. مات مظفر حين مرض ودخل المستشفى ولم يعلم به أحد. لربما يكون في موت مظفر حياة له، فيقرأ الناس شعره كردة فعل علىٰ كل هذا التجاهل الرسمي. لم يكن مظفر شاعرًا عراقيًّا، بل هو صوت صارخ في البرية.
وأختتم الشاعر المبدع بقوله: اتقطعت علاقتي بهذه الصديقة منذ فترة، واختفت من كل وسائل التواصل، ولكنني أعرف أنها أكثر الناس حزنًا لموت مظفر.. لعل موت مظفر يعيدها، كما سيعيد موته حضوره.. "أنت، ولا أنت، وأجهل وأكتشف/ ما غربة روحي ترف".