حكاية نصاب أسوان الذي لهف الملايين من الناس لن تنتهي في بر مصر المحروسة، طالما الناس لا تتعلم من التجارب وطالما القانون في بلادي مازال بعافية، ننام على كلام عن أزمات مالية ونصحو على بحر من الأموال يتحرك نحو الفراغ.
المستريح الذي تأسس في بلادنا لا يفنى ولا يستحدث من عدم، مازالت الذاكرة تحتفظ بصورة شركات توظيف الأموال مثل السعد والريان وغيرهما ثمانينات القرن الماضي وكانت صورة ملء السمع والبصر، صفحات كاملة في الجرائد الرسمية كانت تنشر اعلاناتهم وصورهم مع مشايخ بعمامة ولحية، وكان شعبنا المتدين بطبعه يهجر البنوك ليس لحرمانية الربا المزعوم ولكن طمعا في مكسب سهل يشتري به ساندوتشات الهامبورجر ويستقبل الصدمة بعد وقت قصير عندما تتبخر المدخرات في الهواء.
القضية مرتبكة ومعقدة، ليست جريمة النصاب الذي لهف الملايين ولكنها جريمة إشترك فيها المواطن والنصاب معا وتأخرت الدولة في التحريات والمتابعة والحسم في المهد، وتكون النتيجة كما نشاهد الآن في أسوان حرائق في بيوت المستريحين وسياراتهم، غضب من قرى في مواجهة قرى وصعود النبوت للحماية.
سوف يستمر المسلسل وينتقل من الصعيد الى بحري الى القناة، لا أحد يتعلم الدرس والقانون يأتي متأخرا، الذي أعرفه في فلسفة أمن المجتمع هو منع الجريمة قبل وقوعها وليس مطاردة المجرمين بعد وقوع الفأس في الرأس، لذلك تلقيت خبر أسوان بهدوء تام لأنني شاهدت هذا المسلسل كثيرا، وفي واحد منهم بالتحديد في الإسماعيلية كان المستريح هناك اسمه مهند في منطقة الكيلو 14، وقتها حرص مستريح الإسماعيلية على إلتقاط صور له مع أكبر القادة التنفيذيين في المدينة ليوحي للضحايا بمباركة الدولة، ثم جاءت الصدمة حتى أن عدد من المودعين ماتوا بالحسرة.
وبرغم وضوح كذبة النصاب أو مجموعة النصابين الذين برزوا مؤخرا في المحافظة المسالمة أسوان إلا ان تهافت الناس على المكسب السريع يحتاج أكثر من وقفة وأكثر من سؤال.. لعل أبرز سؤال هو.. هل فقد المجتمع همته كي ينجز أعمال يدوية متراكمة تعود على صانعيها بالنفع وعلى المجتمع بالأمان؟ أم أن بيئة العمل البسيط والمتوسط صارت قاسية وان المعوقات التي يقابلها المجتهد صارت لا تحتمل بعد أن فرض جيش الفاسدين من صغار رجال الدولة انفسهم على كل مشروع، ليقتلوا الطموح عن عمد.
الحكاية ليست اتهام بسيط نلقي به على رأس المستريح النصاب أو المودع الطمعان ولكنها منظومة متكاملة تأخذنا نحو الوهم الذي سرعان ما ينكشف لنقف على حقائق مجردة ابرز ملامحها هي التجارة في الخسارة.
المكسب السريع والفهلوة والنصب وبلطجة الرصيف وثروات الهواء من سايس السيارات حتى موظف الختم الحكومي والدرج المفتوح، كل هذه الأمراض لن يعالجها سوى ثقافة الوردية في مصانع كثيفة العمالة ولن ينقذ المتورطون في تلك الامراض سوى الانتشار بعرض البلاد لزراعتها.. هي افكار بسيطة ولكنها أنتجت في الستينات طبقة وسطى حافظت على صمام أمان المجتمع.
لا يقتل الجامعي سوى جاهل تيسرت له الحياة بينما المتعلم يتعثر في طوابير البطالة، ولا يقتل المثقف إلا انسداد أذن المتلقي لرسالة الثقافة ولا تنحدر الفنون إلا بصعود المستريحين على قمة عرش الإنتاج.. فينهار المجتمع ويندم الجميع ووقتها لن ينفع الندم.