دماء شيرين كتبت من جديد تاريخ النضال الفلسطيني، وأوضاع المسيحيين الفلسطينيين في فلسطين، وسعدت بمقابلة الشهيدة شيرين من 26 عاما حينما كنت أراقب أول انتخابات فلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو وكانت تبلغ من العمر حوالي ربع قرن، فتاة جميلة ممشوقة تطل من عينيها خضرة أغصان الزيتون، وتضاريس وجهها تجسد خريطة فلسطين، كان ذلك بمنزل الخبير الحقوقي محمد جردات ببيت لحم، وأجرت معي حوارا صغيرا حول الانتخابات لإذاعة مونت كارلو، وعرفت أنها من أسرة مسيحية يعود أصلها إلى بيت لحم، ولدت شيرين بعد الاحتلال الإسرائيلي للقدس بأربع سنوات، وعاشت طفولتها وريعان شبابها في ظل الاحتلال، وجهها يحمل جمالا وحزنا مثلما كانت بالمريمات تحت الصليب، وملامح وجهها تحمل كل معاني درب الآلام، ورغم أنها درست الهندسة المعمارية إلا أنها درست الإعلام للدفاع عن شعبها، والتكنولوجيا في الأردن، ثم انتقلت إلى تخصص الصحافة والإعلام - فرعي العلوم السياسية، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة اليرموك في الأردن عام 1991.
انتقلت للعمل في عام 1997 مع قناة الجزيرة الفضائية، حيث عملت أبو عاقلة على تغطية أحداث الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كافة حتى قُتلت برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في 11 مايو 2022.
كانت فعلا شهيدة الكلمة كما يقال في مصر "بنت موت" قليلة الكلام مثل راهبات الوردية التي تعلمت علي أيديهن.
القدس في القلب والعينين:
طورت المناطق السكنيّة المسيحية في مدينة القدس مع زيادة النفوذ الغربي الأوروبي فبنيت مدارس الإرساليات والمشافي والمعاهد العلمية، فازدهر حي النصارى مقارنة بالأحياء الأخرى التي عانت من فقدان هذه الخدمات، كما نشطت حارة النصارى اقتصاديًا خاصًة مع ازدهار أحول سكانه الذين عملوا بالتجارة، ومع هجرة مسيحيي القدس أرسل أثرياء المهجر أموالاً لدعم أهالي الحي. في عام 1898 وافقت الدولة العثمانية على طلب من الدول الأوروبية وفتحت بوابة جديدة في أسوار البلدة القديمة، في منطقة جديدة للتنمية. كانت تسمى بوابة "الباب الجديد". وتملك إيطاليا وفرنسا وروسيا واليونان وإسبانيا والمملكة المتحدة والنمسا والولايات المتحدة أكثر من مائتي معلم معماري أثري في القدس، وتتنوع ما بين الكنائس والأديرة والمراكز الثقافية والمدارس والمشافي وبيوت الضيافة، وتدير هذه الأملاك الحكومات أو الإرساليات التبشيرية. من بينها جمع الآباء الفرنسيسكان المعروف باسم "مجمع الأرض المقدسة" والذي تملكه إيطاليا، وكنيسة القديسة حنة والتي تعود ملكيتها إلى الحكومة الفرنسية، والمسكوبية والتي تعود ملكيتها إلى الروس، ومجمع أوغوستا فيكتوريا الذي بناه الألمان البروتستانت.
كان عدد المسيحيين في القدس سنة 1947 نـحو 27 ألفاً، يذكر أنّ أغلبية القدس الغربية كانت من مسيحيين. قامت العصابات الصهيونية بمسح أحيائها وتهجير سكانها وإنشاء أحياء سكنية يهودية فيها لتشكيل "القدس الغربية اليهودية". وهكذا، فكما يقول المؤرخ الفلسطيني سامي هداوي إن نسبة تهجير العرب من القدس بلغت 37% بين المسيحيين مقابل 17% بين المسلمين، سجلت أيضًا في أعقاب حرب 1967 مصادرة أملاك ومدارس وكنائس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة، ومزيدا من التهجير، في حين استمرت الهجرة نحو أوروبا والعالم الجديد. وفقًا لإحصائيّة دائرة الإحصاء المركزية في 31 ديسمبر 2015 وجدت أنّ عدد المسيحيين في مدينة القدس يصل إلى حوالي 12,300. وعلى الرغم من أن الأرمن منفصلون رسميًا عن المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك العرب في القدس، فإن الأرمن يعتبرون أن حي الأرمن جزء من الحي المسيحي في المدينة. وعبرت البطريركيات المسيحية الثلاث في القدس وحكومة أرمينيا علناً عن معارضتها لأي انقسام سياسي في الحارتين، وأشارت في بيان رسمي لها: "نحن نعتبر الأحياء المسيحية والأرمنية في البلدة القديمة كيانات مترابطة ومتصلة ومتحدة بقوة من نفس الإيمان". إن الأسباب الرئيسية لوجود حي أرمني منفصل هي المذهب الميافيزي واللغة والثقافة المميزة للأرمن، والذين، على عكس غالبية المسيحيين في القدس، ليسوا عرباً.
وفقًا لمعهد القدس للدراسات السياسية عام 2019، بلغ عدد المسيحيين في القدس حوالي 15,000 ويُشكلون 2% من مجمل سكان المدينة. في عام 1946 كان عدد المسيحيين في المدينة 31,00 نسمة وكانوا يُشكلون حوالي 19% من سكانها، ويعود تناقض الأعداد بسبب الهجرة المسيحية واسعة النطاق. كما أشار استعراض معهد القدس لأبحاث السياسة أيضًا إلى أن حوالي 44% من المسيحيين في القدس يعيشون في البلدة القديمة، حيث يبلغ عددهم حوالي 6,500 نسمة، ويتركز حوالي 4,000 منهم في الحي المسيحي وحوالي 2,500 في الحي الإسلامي والأرمني. تاريخياً ضمت بعض الأحياء مثل العيسوية، وبيت حنينا، والمستعمرة الأمريكية في القدس أعدادا من المسيحيين. وتضم بيت صفافا أعدادا من المسيحيين تعود أصولهم إلى مدينة يافا والناصرة والقدس، مما أدى إلى توسيع المجتمع المسيحي الصغير فيها. كما ضمت قرية أبو غوش تاريخياً على طائفة مسيحية صغيرة.
بيت لحم:
مدينة بيت لحم هي من أقدس المواقع المسيحية في العالم كونها المدينة التي فيها وُلِدَ يسوع، وبسبب قدسية مدينة بيت لحم لدى العالم المسيحي يتواجد في المدينة عدد كبير من الكنائس والأديرة فضلًا عن المواقع المسيحية المقدسة، بالإضافة إلى المؤسسات المسيحيّة المختلفة من مدراس وجامعة كاثوليكية ومستشفيات شتى، وكونها مدينة ميلاد يسوع تحظى المدينة بشعبية واسعة، وترتبط بعيد الميلاد. كانت كنيسة المهد هي الأولى بين الكنائس الثلاث التي بناها الإمبراطور قسطنطين في مطلع القرن الرابع الميلادي حين أصبحت المسيحية ديانة الدولة الرسمية، وكان ذلك استجابة لطلب الأسقف ماكاريوس في المجمع المسكوني الأول في نيقية عام 325 للميلاد. دخلت كنيسة المهد سنة 2012 قائمة مواقع التراث العالمي، كنيسة المهد هي أول موقع فلسطيني يدرج ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو. وتتسم العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في المدينة بالإيجابية والتعايش، ووفقًا للاستطلاع الذي أجراهُ المركز الفلسطيني للبحوث والحوار الثقافي في عام 2006 في مدينة بيت لحم تبيَّن أن 90% من المسيحيين قالوا إن لديهم أصدقاء مسلمين، ووافق 73.3% منهم على أن السلطة الوطنية الفلسطينية تُعامل التراث المسيحي في المدينة باحترام ونسبة 78% منهم عزت سبب هجرة المسيحيين إلى القيود الإسرائيلية التي تفرُضها على السفر.
يسكن مدينة بيت لحم أحد أقدم المجتمعات المسيحية في العالم. بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام في عام 630، تعربّ المسيحيون المحليون على الرغم من أن أعداداً كبيرة منهم كانوا عرباً بالأصل وتعود أصولهم إلى عشيرة الغساسنة. وتعود أصول أكبر عشيرتين مسيحيتين في بيت لحم إلى الغساسنة، بما في ذلك الفرحية والنجاجرة. وتنحدر العشيرة الأولى من الغساسنة الذين هاجروا من اليمن ومن منطقة وادي موسى في الأردن الحالية، وينحدر النجاجرة من نجران. وتعود أصول عشيرة مسيحية أخرى في بيت لحم، وهي العناترة، إلى الغساسنة. بدأت الهجرة المسيحية من الدولة العثمانية ومن منطقة ما يعرف بالمثلث المسيحي خلال القرن التاسع عشر، حيث كانت أمريكا اللاتينية تاريخياً محط أنظار المهاجرين المسيحيين خاصةً من مناطق بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور، أو ما يُعرف بالمثلث المسيحي.
تراجعت أعداد المسيحيين في مدينة بيت لحم بشكل مُطرد منذ منتصف القرن العشرين، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الهجرة، ويمثل انخفاض معدل مواليد المسيحيين أيضًا سببًا آخر لهذا التراجع. في عام 1947 بلغت نسبة المسيحيين حوالي 85%، ولكن بحلول عام 1998 انخفضت النسبة إلى 40%. في عام 2005 وضح رئيس بلدية بيت لحم فيكتور بطارسة أن "نتيجة للتوتر سواء الجسدي أو النفسي والحالة الاقتصادية السيئة، كثير من الناس يهاجرون، سواء مسيحيين أو مسلمين، لكن الهجرة أكثر انتشارًا بين المسيحيين، لأنهم بالفعل أقلية". ذكرت الصحيفة الإسرائيلية جيروزليم بوست أن "تقلص أعداد الطوائف المسيحية الفلسطينية في الأراضي المقدسة وبشكل خاص في بيت لحم جاء كنتيجة مباشرة بسبب انتمائها إلى الطبقة المتوسطة والعليا". وأدى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية إلى انخفاض ناتج القطاع السياحي والتي أثرت على الأقلية المسيحية وعلى أصحاب الفنادق في بيت لحم الذين يقدمون الخدمات المُلبية لاحتياجات السياح الأجانب. أشار تحليل إحصائي لهجرة المسيحيين من المدينة لانعدام الفرص الاقتصادية والتعليمية، خصوصًا بسبب انتماء المسيحيين إلى الطبقة الوسطى وارتفاع المستوى التعليمي بينهم. مُنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية غادر 10% من السكان المسيحيين المدينة. صرح آمون رمنون الباحث في معهد القدس لأبحاث السياسات، أن سبب هجرة المسيحيين بالمقارنة مع هجرة المسلمي هو بسبب سهولة إندماج المسيحيين العرب في المجتمعات الغربية مقارنة بالمسلمين العرب، حيث إن العديد منهم يحضرون يدرسون في المدارس التبشيرية، حيث يتم تدريسهم اللغات الأوروبية على مستوى عالي. كما أنَّ نسبة عالية من المسيحيين في المنطقة هم من سكان الحضر وذوي مستوى تعليمي عالي، مما يسهل عليهم الهجرة والاندماج بين السكان الغربيين.