لا شك أن الكلمة من أهم عناصر نجاح أى عمل، فهى حجر الأساس الذى تبنى عليه باقى العناصر، كما أنها يمكن أن تطربنا بمعناها وعمقها، فتصبح كاللحن الجميل الذي يزيد ارتباطنا به كلما زاد استماعنا إليه..هكذا أعمال المؤلف والسيناريست الكبير عبد الرحيم كمال، والذى يمس القلوب والعقول بما يكتبه، ويطرق برقة الجانب الروحي للإنسان بإختلاف العقائد، ويكشف صراعات النفس البشرية، ويعبر عن همومها ومعاناتها التى عادة لا تختلف بتغير الأمكنة والأزمنة..وفى كل مرة نستمتع بكلماته ونتمعن فيها، نستكشف معان أعمق، فيدفعنا دائما للتأمل والتفكير، وقد يجيب عن تساؤلاتنا أحيانا، أو يثير داخلنا تساؤلات أكبر، رغم ما يبدو من بساطة حكاياته، التى لا تخلو من الخيال والطابع الأسطوري الذى يغلفها، فتحقق المتعة للجمهور ككل بإختلاف مستوى التلقى..ومؤخرا قدم لنا ملحمته الخيالية الرائعة"جزيرة غمام" والتى استلهم فيها أحداثا كثيرة من قصص القرآن والصالحين.
واستعرض فيها طبائع البشر (حاكم ومحكوم).. والصراع بين الإنسان والشيطان، وفلسفة الكيانات الغاصبة..فتمتلئ بالرسائل والعبر، والمعانى الصوفية، وتمس هموم المواطن فى المجتمعات، وتتماس مع السياسة والاقتصاد والدين..فتعبر عن كل بقعة فى المعمورة أحاطها الغمام، وضاقت رؤية وبصيرة أهلها، وطُمست أعينهم عن حقيقة أنفسهم وجوهر الحياة، حتى أصبحوا فى مهب الخطر من “الزوبعة” التى لا ينجو منها سوى أصحاب القلوب النظيفة الذين كشفوا غمام عقولهم وأدركوا حكمة الوجود.. وهى قصة تصلح لكل زمان ومكان، ويمكن تفسيرها من زوايا متعددة وفقا لفهم ورؤية كل متلقى، كما يمكن إسقاطها على واقعنا المعاصر بتأويلات مختلفة..فنرى الجزيرة الآمنة التى تبدلت أحوالها على أيدى خلدون (تتعدد رموزه بين الشيطان-الصهيونية-الكيان المحتل)، وأبدع فى تشخيصه المتألق/طارق لطفى، ورفاقه طرح البحر والتى اختزلت كبيرتهم (القديرة/لبنى ونس)بروتوكولهم لتفريق الشعوب واحتلال أرضهم فى ثلاث كلمات بالتتابع (تطاطى، تسعى فى خرابها، تمسكها من قرونها)..أما العايقة التى إختطفها خلدون وأقنعها أن أهلها باعوها، والتى لها وجهان أحدهما يعبر عن الإغواء والفتن، والآخر الوجه البرئ النقى لنوارة المغتصبة (وربما ترمز للأرض المحتلة التى أشاعوا أن أهلها باعوها!)، وتألقت النجمة/مى عز الدين بتعبيرها عن ذلك التناقض بقمة البراعة والنضج..وأبدع الفنان/رياض الخولى فى تقمصه لدور الحاكم "عجمى" والذى يغلب عليه الصلاح وإن كان هدفه الأسمى الحفاظ على الكرسى..ويليه فى السلطة “بطلان” الذى يرمز للبطانة الفاسدة، ويثبُت تورط إبنه فى قتل البريئة المغدورة/سندس (وأداه ببراعة الفنان/محمود البزاوى)..وجدتها"مليحة" الضريرة البصيرة التى أصرت على القصاص، وربما ترمز للعدل معصوب العينين والذى يتحقق رغما عن الجميع، وشخصتها القديرة عايدة فهمى التى أبكتنا بروعة أدائها..ونرى رجل الدين الصالح الشيخ مدين(المبدع/عبد العزيز مخيون الذى ترك أثرا كبيرا رغم ظهوره كضيف شرف)والذى قسم تركته وقت احتضاره على تلاميذه الثلاث، المشيخة لمحارب بحيث يخلفه فى إمامة المسجد أمور الفتوى(أداه الفنان/فتحى عبد الوهاب الذى عكست ملامحه القوة واللؤم والغل، والصراع بين نفسه اللوامة والأمارة بالسوء)..وورّث بيته ليسرى(الفنان الموهوب/محمد جمعة)..أما سبحته وكتابه لحبيبه المقرب عرفات(والذى فاجأنا بعمق أدائه الفنان/أحمد أمين، ولا شك أنه يملك نقاءً وصفاءً روحيا جعلنا نصدقه فى هذا الدور الصوفى)..وترمز أسماء الشخصيات لطبائع أصحابها، فمحارب الذي يتعامل مع الدين بغلظة، ويريد أن يطبق الشريعة بالقوة والحرب، فيحاول تسليح مريديه كى يفرض سيطرته (كالجماعات المتشددة التى أفسدت الدين بالسياسة والعكس)..ويسرى الذى يكتفي باليسير مما تعلمه، ويتكسب من الأحجبة والأعمال بحجة التيسير على الناس..أما عرفات فهو العارف بالله صاحب الكرامات التقى النقى، الذى يدرك جهله فيعكس قول الإمام الشافعى:”كلما ازددت علما..زادنى علما بجهلى"..والذى نجح الشيطان(خلدون) بإغوائه أخيرا، من مدخل الكبر، بعد أن إرتدى عرفات عباءته وصدق أنه الأعلم والأفضل، فعوقب بما يشبه رحلة التيه..وفيها فقد سبحة الشيخ مدين، والتى تم تجريده منها كى يحافظ على بقاءه مقابل شربة ماء..ليدرك أن السر داخلنا، تأكيدا على فضيلة الاستغناء عن كل ما هو فانى، والتعلق بالله فقط..هذا المسلسل الممتع تميز بقوة وروعة كافة عناصره بلا إستثناء، فبرع المخرج المبدع/ حسين المنباوي فى إدارة فريق العمل بأفضل ما يكون، لنستمتع بالتصوير والإضاءة والديكور والازياء، والذين نجحوا تماما فى التعبير عن الخطوط الدرامية، ونقلونا إلى عصر آخر وبيئة أخرى..وبرع مدير التصوير/إسلام عبدالسميع فى التقاط زوايا تصوير لا يراها إلا مبدع..
أما موسيقى المبدع الموهوب/شادى مؤنس فقد عبرت بروعة وتميز عن أجواء المسلسل المختلفة، وجعلتنا نندمج مع أحداثه ونتعمق فيها، حيث مزج بين أنماط موسيقية مختلفة، تنوعت بين الموسيقى الصعيدية والغجرية والصوفية، واعتمد بشكل كبير على آلات الكولة والناى والأرغول والربابة، بالإضافة للعود الذى يجيد العزف عليه..وتميز بتوظيف الدفوف وآلات الإيقاع للتعبير عن التوتر والتشويق والأجواء النفسية..واستخدم ما يعرف باللحن الدال، بحيث يضع ألحان تميز الشخصيات وتدل عليها..ودمج بين الموسيقى صميمة الشعبية والتآلفات الهارمونية الغربية التى أضافت للموسيقى ثراءا ورقى يناسب الحالة الروحانية للعمل ككل..لذلك إنتزع فى رمضان هذا العام -من مؤلفين موسيقيين أكاديميين يسبقونه خبرة- لقب أفضل موسيقى فى تقييمات عديدة..وختاما لا يسعنى سوى تقديم التحية والشكر لكل المبدعين المشاركين فى هذا العمل القيم الممتع، والذى أثرى الدراما العربية، وحاول نزع الغمام عن الأفهام!