إن المتابع لأخبار المسألة الأوكرانية، سواء على صعيد أفعال وإجراءات الدول المتنازعة أو الدول الحليفة والدول المتعاطفة والدول المتأثرة بنتائج النزاع، أو على صعيد مواقف القادة والزعماء والمشرعين والمنظمات الدولية والاقليمية والمحلية، ومقالات أصحاب الرأي، والتحليلات الإعلامية، والنشرات الإخبارية، والمناظرات التلفزيونية، والمؤتمرات الصحفية، ودراسات مراكز البحوث، وتفاعلات الرأي العام، ومنصات التواصل الاجتماعي، وما شابه ذلك، يجد عديدا من الظواهر، منها على سبيل المثال:
ـ التحيز للطرف الأوكراني أو للطرف الروسي، تحيزا مطلقا وعلى طول الخط.
ـ تبرير كل الأفعال والإجراءات التي يتخذها الطرف المتحيز إليه وحلفاؤه.
ـ الإيمان المطلق بانتصار الطرف المتحيز اليه في نهاية المطاف.
ـ تصديق الأخبار والمعلومات التي يعلنها الطرف المتحيز اليه، دون بحث أو تحر.
ـ المبالغة في الحرب الدعائية وتبادل الاتهامات في ارتكاب الجرائم الإنسانية.
وكل هذه العوامل، لن تساعد على حل الخلاف، بل ستزيده تعميقا وتعقيدا، وتطيل أمده وتضخم تكلفته، وتولد مزيدا من نقاط الخلاف، وتعطي الفرصة لكل طرف لإضافة طلبات جديدة، تزيد الحل صعوبة وتعقيدا.
ومن وجهة نظري المتجردة كخبير في حل الخلاف [وليس كشخص وإنسان، له عواطفه ومعتقداته] أرى أن المنظر العام للمسألة تحيطه المحددات والإطارات التالية:
ـ وجود رغبة وحرص لدى حلف الناتو وروسيا (حتى الآن) على عدم الانجرار لحرب نووية تدمر الجميع.
-أن روسيا كدولة نووية عظمى لن تسمح بأن تنهزم، وستكون قرارات المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من المنظمات الدولية ضد روسيا، بفرض ضغط الغرب لصدورها، مجرد حبر على ورق وغير قابل للتنفيذ.
-أن أمريكا وأوربا ومعهم اليابان واستراليا وكندا وكوريا الجنوبية، المتحدون ضد روسيا، لن يقبلوا بأن ينهزموا أيضا، وقادرون على تمويل النزاع لسنين طويلة. خاصة وأن الرأي العام الغربي قد تم تجييشه ضد روسيا (وهو عكس ما كان في حرب فيتنام على سبيل المثال) وبالتالي فاستمرار النزاع مضر بالجميع.
ـ إن من مصلحة الغرب عدم إطالة أمد النزاع، حتى لا تنجر الصين الى الدخول المباشر في الخلاف الدائر.
-أن نظام زيلينسكي الذي فشل فشلا ذريعا في قيادة الموقف الأوكراني، ووضع مقدرات أوكرانيا في يد حلف الناتو وروسيا، لن يصمد طويلا في ظل زيادة التدمير اليومي للبلاد. وإذا حدثت فوضى في البلاد، وانفلتت سيطرة الحكومة المركزية، فستكون لها أثارا مدمرة على أي أمل في حل الخلاف.
-على الغرب أن يمحو من مخططاته أية احتمالات قريبة أو حتى في السنين المنظورة القادمة، حدوث أية قلاقل داخلية في روسيا ضد نظام بوتين. فقد اكتسب بوتين شعبية متزايدة داخل روسيا وأسيا وأفريقيا.
-أن نظام بوتين مستمر، ونظام ماكرون مستمر، ونظام بايدن مستمر حتى 20 يناير 2025. وسياسات
الغرب تجاه روسيا لن تتغير، وبالتالي فالنزاع مرشح للإستمرار لسنين. وهو كارثي بكل المقاييس.
-من مصلحة أمريكا أن تحافظ على الوضع الحالي للدولار الأمريكي [بقوة الأمر الواقع] وهو عملة بدون غطاء، وعدم الدخول في حرب عملات، تجعل الدول الأخرى (مثل الصين والسعودية وغيرها) أن تسرع من دخول عملاتها لساحة التبادلات الدولية، مثلما دخل الروبل، وبالتالي يفقد الدولار الأمريكي مكانته.
-إن العقوبات على روسيا كلما زادت وتنوعت كلما قل تأثيرها على المدى المتوسط والبعيد، فالحاجة أم الاختراع، وكما صمدت دولة متوسطة مثل ايران ودولة صغيرة مثل كوريا الشمالية، ودولة لاتينية مثل فنزويلا، فمن غير المتصور ألا تصمد روسيا. كما أن العقوبات هي أفضل الدروس لتقوية اقتصاد الدول، فكم من دولة تعرضت للمقاطعة، وتعلمت الدروس منها، وأصبحت مكتفية ذاتيا في كثير من المنتجات.
- كلما زود الغرب أوكرانيا بمزيد من الأسلحة المتقدمة، كلما طور الجيش الروسي من أسلحته التكتيكية لتواكب التكنولوجيا المتقدمة للأسلحة الغربية. وهو ما يفيد صناعة السلاح الروسي عملياتيا وتكنولوجيا. وهو أمر في غير صالح صناعة الأسلحة الغربية بكل تأكيد.
- إن موجات الغلاء والتضخم وزيادة الفقر ونقص الغذاء على مستوى الدول والشعوب، ليس في مصلحة الغرب. فمطالب روسيا كانت متواضعة جدا قبل الغزو، ولكن صلف الغرب وتعنته وتمسكه بالشكليات وحق أوكرانيا المطلق كدولة مستقلة في الانضمام للناتو من عدمه، هو الذي تسبب في الغزو. وذات الخطأ يسعون لارتكابه مع فنلندا والسويد.
- ان الحرب الباردة لها أضرار ولها فوائد، وأضرارها أكثر من فوائدها. واستمرار النزاع يؤجج الحرب الباردة ويزيد من عدد السماسرة المقتاتين على استمرارها، كما يهدد السلم والأمن العالمي.
- إن التأثيرات الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، لها تأثيراتها الضارة ايضا على الشعوب الأوروبية والأمريكية وهو ما يفقد تلك العقوبات التعاطف معها على المدى المتوسط والطويل.
ـ إن سياسة القطب الواحد أو حتى القطبين، لم تعد مقبولة من شعوب العالم الثالث. وبالتالي على أمريكا أن تؤمن بحركة التاريخ، وأنه ليس بمقدورها الحفاظ على وضع القطب الواحد، وعليها أن تتخلى عن استراتيجيتها في عدم مناصرة الشعوب، وعن معاداة بعض الحكام، ومناصرة البعض الآخر.
وبالتالي فمن مصلحة الجميع إيقاف وقطع جذور هذا الخلاف الذي يستزف المال والأرواح والممتلكات والجهود، ويزيد من معاناة الشعوب ومن غلاء الأسعار ومن التضخم ومن حالات الإفلاس ومن شح الغذاء.
ومن الخزعبلات التركية، محاولة الجمع بين بوتين وزيلينسكي للتفاوض المباشر في تركيا. حيث لا أظن أن بوتين سيوافق. كما أن التكافؤ منعدم بين الطرفين. والقرار ليس في يد زيلينسكي. كما أن الداخل الأوكراني من الناحية القتالية لم يعد بمقدور زيلينسكي وحده أن يوقفه. واللقاء (بالفرض الجدلي أنه سيتم)، سيوسع الخلاف، ويزيد الهوة بين الطرفين، ويعقد الحل. كما لم يكن السكرتير العام جودريتش موفقا في اختيار ملابسه، التي فضحت موقفه المتحيز. فقد ارتدى بدلة كاملة ورابطة عنق عندما قابل بوتين، بينما ارتدى البلوفر الكاكي عند مقابلته لزيلنسكي!! متشبها بالأخير، وكأنه يشاركه القتال!!
وكما درسنا في علوم الرياضيات، قد تكون هناك عدة حلول أو عدة إجابات للمسألة الواحدة. ولكن في المسألة الأوكرانية، لا أجد كخبير في حل الخلاف، إلا حلا واحدا (وواحدا فقط) هو:
لقاء بين بوتين وبايدن في باريس بحضور ماكرون. عندها سيتم إيقاف القتال، ويبدأ الحل، ويحصل الرؤساء على جائزة نوبل للسلام، ويتعلم الجميع من دروس تلك الأزمة. ويتم تطوير الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية وتبعث فيها حياة جديدة بعد أن شاخت، حيث تأسست منذ 77 عاما مضت.