مبهج أن نرى عملا دراميا كمسلسل "بطلوع الروح".. فعلى الرغم من قسوة المشاهد، إلا أنه كغيره من أعمال جادة تحترم عقل المشاهد، تذكرنا بأمجاد الفن المصرى، وتعيد إليه مكانته وريادته، وتؤكد أن مصر ولادة وإبداعها لن يموت..وكالعادة تثبت المخرجة المبدعة كاملة أبو ذكرى جدارتها بالنجاح، فقد شيدت على مدار عمرها الفنى جسرا من الثقة بينها وبين عقول وقلوب جمهورها، بجديتها فيما تقدمه، وجرأة إختياراتها وبحثها عن الجديد دون تكرار لنفسها، ودقتها فى اختيار أبطالها، دون مجاملة أو محاباة كما نرى فى الكثير من الأعمال!.. يخترق المسلسل عالم "داعش" والجماعات الإرهابية بأسلوب فنى وإبداعى محكم، ويكشف بشكل غير مباشر بعضا من قبح تلك الجماعات، وما عاشه الأبرياء والمسالمين العزل أهل البلاد التى دخلوها وانتهكوها، وأذلوا أهلها واستباحوا مالهم وشرفهم ودماءهم.. فنرى وحشيتهم وقسوتهم وغدرهم، وفرض وصايتهم على الناس، وتكفيرهم لمن يخالفهم الرأى..واستباحتهم لكل شئ دون رادع، وارتكابهم لأفظع الجرائم خلف ستار الدين، ووهم تحقيق دولة الخلافة!..كما يلفت أنظارنا لدور المرأة فى الجماعات الإرهابية، وخطورة بعض النساء اللاتي لا تقل دمويتهن وإجرامهن عن أعتى الإرهابيين!..ورغم إعجابى وشغفى بالمسلسل إلا أننى كنت أتعجل نهايته، وسعدت بكونه 15 حلقة فقط، ليس ابتعادا عن الملل والتطويل الذى كثيرا ما يفرض علينا فحسب، ولكن لشدة تأثرى بالأحداث التي تشعرنى فعليا باسم المسلسل، فتُحبس أنفاسى وأستشعر مع تتابع اللقطات بطلوع روحي وكأننى مخطوفة مثل "روح" وابنها..يدور المسلسل حول روح(منة شلبى) والتى تنتمى لأسرة من الطبقة الراقية وتعيش مع طفلها وزوجها أكرم(محمد حاتم) مخرج الإعلانات والذى كان زميلها بالجامعة وعاشا قصة حب قبل زواجهما..ولكن مؤخرا تتغير طباعه، وتشك روح بوجود أخرى فى حياته بسبب اتصالاته المريبة، ولكن يتضح بعد ذلك أن هذا التغير بسبب سيطرة عمر(أحمد السعدنى) زميلهم بالجامعة على تفكيره وإقناعه بأفكار متطرفة.. تشتد الأحداث بعد أن يأخذها وطفله فى رحلة إلى تركيا لعدة أيام، بحجة الفسحة، وهناك يختفى بابنهما كى يجبرها على الذهاب معه أينما كان..وتفشل فى العثور عليهما حتى يطمئنها تليفونيا ويحذرها من إبلاغ أحد، ويرسل من يصطحبها إليه..وقبل أن تصل لزوجها وابنها ومعهم عمر الذى أصبح من قادة داعش، ترسل رسالة لصديق والدها تخبره.. وأثناء إتجاههم للرقة يجبرها عمر على إرتداء النقاب فى السيارة، وينتزع منها تليفونها وجواز سفرها.. لتبدأ رحلة اختطافها فى أحد أبرز معاقل الإرهاب..ونعيش مع روح وأهل الرقة المقهورين فى عالم مخفيف بائس، بعد أن تحولت حياتهم لجحيم، مهددين بالجلد والقتل فى كل لحظة..ويتوالى فشلها فى الهرب، وتسجن وتجلد وتهان من قٍبل نساء "لواء الخنساء" والذى تترأسه أم جهاد(إلهام شاهين) والتى تقوم بتنفيذ العقوبات وتجلد وتقتل النساء بكل قسوة وجبروت، وتجبر النساء على تفخيخ أنفسهن، وفى نفس الوقت تشتهى شابا يصغرها بأعوام طويلة، وتلح عليه للزواج منها بشكل مقزز!..ويتم تكفير روح وبدلا من إعدامها تصبح سبية فى يد عمر(الذى خطط لإحضارها وزوجها كى ينالها ويذلها لتجاهلها حبه) وبعد قصف الرقة وانهيار داعش تنظيميا تنجح مع قليلين من الهرب وسط القتلى والأشلاء والنيران الطائشة فى كل مكان..قدم المسلسل نماذج من لحم ودم لهؤلاء الارهابيين، فرسم الشخصيات بشكل غير نمطى ودون شيطنة مطلقة.. فأحدهم أكرم والذى يمثل ذوى الشخصيات الضعيفة غير المتزنة، والذين يسهل التغرير بهم، فيمشون وراء الشعارات المضللة ظنا بأنهم ينصرون الدين، حتى يتورطوا ويصبحوا سفاكى دماء.. كذلك عمر الذى ينتقم من مجتمع لم يجد نفسه فيه، ويحمل عقدا نفسية تتصيدها تلك الجماعات، وتداويها بالسلطة والنفوذ التى تمنحهم لمثله..وقد استند المسلسل على الكثير من الأبحاث والمراجع والتسجيلات المرئية، ووفقا لمؤلفه الصحفى والسيناريست/محمد هشام عبية فرغم أن القصة غير حقيقية إلا أنها مستوحاة من أحد التحقيقات الصحفية لسيدة مصرية انتقلت برفقة زوجها إلى داعش دون رغبتها.. كذلك شخصيات لواء الخنساء الذى أسسته داعش عام 2013، استوحاها من الخيال ولكنها تتلامس وتتشابه مع النساء اللاتى تم تجنيدهن في التنظيم..فنجح العمل فى توصيل الفكرة من خلال الدراما دون سذاجة ومباشرة فى الحوار..أما التمثيل فقد إستمتعنا بمبارة رائعة برع كل من فيها، وعلى رأسهم المتألقة والمتفردة منة شلبى والتى تفوقت على نفسها وعلى كل من سواها..فتوحدت مع الشخصية تماما، وجعلتنا نتوحد معها، وقدمت دورا تنافس به أقوى الممثلين فى العالم..كذلك الفنان/أحمد السعدنى الذى قدم أداءا مبهرا يظهر موهبته الكبيرة، والتى لم تبرز من قبل بهذا النضج..وأيضا الفنان/محمد حاتم بأدائه السهل الممتنع الذى يجعلنا نكرهه ونتعاطف معه فى نفس الوقت..ويحسب للفنانة/إلهام شاهين جرأتها فى تقديم تلك الشخصية الكريهة التى لا يمكن لأحد أن يتعاطف معها..وكنت أتمنى أن يتسع المقال للإشادة بكل مبدعى العمل دون استثناء..فكل التحية والإحترام لهم فردا فردا، وكل الشكر لجديتهم وبراعتهم ونكأهم لجرح ما زال ينزف فى جسد البلدان العربية، ولن يداويه إلا الوعى!