بداية نتفق على أمر جد مهم، هو أن القرآن الكريم ليس كتاب فلسفة، وإنما بكثير من البحث والتنقيب والتأمل نستخلص من بين آياته المحكمات، مثل قوله تعالى (قل هو الله أحد)، نستخلص نظرية في التوحيد، أنه ليس ثم إلا إله واحد وإلا ما استقام الأمر.
وكذلك نستخلص ونكون رأيا مثلا عن نظرية النبوة، ولماذا أختص الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من بين شباب وفتيان قريش، لماذا اختصه بالرسالة، نجد دليلا نقليا (الله أعلم حيث يجعل رسالته)، فالله يعلم هذه تقودنا إلي الدليل العقلي الذي يقوم على التفكير والاعتبار.
فالتدبر والتأمل والبحث طريقة لبناء النظرية الفلسفية لماذا؟!، لأن في ذلك إعمال للعقول، بل وهو أمر من الله، (فاعتبروا يا أولي الألباب)، (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، إذن الإعتبار منهج يقوم على ركائز ومقدمات كبرى وصغرى نصل خلالها إلى نتيجة مسترشدين بالعقل.
كذلك في حاجتنا إلى النبي في ذلك إعتبار أيضا وتفكر، لماذا أرسل الله الرسل والأنبياء، ولماذا شرع الشرائع، يرد القرآن الكريم ردا محكما مخاطبا العقول النيرة التي ليست عليها إقفال (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون على الله حجة بعد الرسل)، كذلك (إنا أرسلناك بالحق بشبرا ونذيرا)، (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، كيفية التبليغ وتعامله المبلغ بكسر الباء والام، مع المبلغ بفتح الباب واللام، هذه فلسفة الدعوة، وإلا لن يكون تبلغيا وإنما سيصبحون تنفيرا، أما عن منهجية التبليغ ونظرياته فقد أوردها الله تعالى (أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)، إذن تلك نظرية ممنهجة في التبليغ وسيكولوجية في الدعوة بالتي هي أحسن فهل يصح أن يكون س أو ص من الناس حديث عهد بالإسلام مثلا وأثقله بما لا يطيقه من تكليفات وإلا ما كان نزول القرآن مناسبا المواقف حتى أكتملت الدعوة.
فلا يجوز أن يكون صبيا مثلا وأطالبه بحفظ سورة من السور الكبيرة في القرآن، وإنما نبدأ معه تدريجيا من قصار السور، وتلك فلسفة تربوية تأهيلية لتأهيل الصغار وحتى للكبار لحفظ القرآن مع شرح مبسط لمعاني الآيات.
كذلك من منهجيات الدعوة لابد أن تؤسس على معايير وضوابط معينة، فمثلا قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، إذن الدعوة باللين من القول وعدم الفظاظة، وحتى بعد التبليغ، (واخفض جناحك للمؤمنين)، أيضا (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، فالدعوة لها ضوابط ترغيبا وليس ترهيبا فلا إكراه في الدين ولا تشدد فلن يشاد الدين أحد إلا غلبه، ولا ينبغي أن يتصدى كل من هب ودب للدعوة والا سيتحول الأمر وينقلب إلى الضد فبدلا من أن يقبل الناس على الدين، سينفرون (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)
كذلك في تعلم القرآن الكريم وعلومه بناء للنظرية الفلسفية القرآنية، بمعنى، حفظ القرآن على الأحكام، أحكام تلاوته وجماليات الأحكام، كالإضغام والإقلاب والغنة والإظهار والإخفاء، وفي ضبط التلاوة نظرية فلسفية تجعلنا نتأمل ونناقش هذه الإبداعات القرآنية وأن لكل حكم من أحكام التلاوة مدلولاته وجمالياته التي تجذب المستمع وتحلق به في سماء رحب وتجعله في حالة روحانية مفارقة، كذلك القراءات العشرة، كل قراءة من هذه القراءات لها معانيها وإشاراتها وتنبيهاتها، أليست هذه نظرية فلسفية.
فضلا عن ذلك فإن المتصفح المتأمل للقرآن الكريم، والمطالع للتفاسير المختلفة له، كالجامع لأحكام القرآن للقرطبي، أو محمد على الصابوني، أو محمد سيد طنطاوي، أو تفسير ابن كثير أو تفسير الجلالين جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي، أو مفاتيح الغيب للفخر الرازي، أو الكشاف للزمخشري، محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي، أو تفسير الشعراوي.
يجدها جميعها مختلفة لماذا؟! لأنها خواطر إيمانية وهبات صفائية واجتهادات شخصية مدعومة بفكر وروية وتأمل فخرج المنتوج مختلف، وهذا دليل دامغ على إعجاز القرآن الكريم، والبحث عن إعجازية القرآن الكريم وما الذي جعله ثابتا راسخا في القلوب والعقول، وثباته أقوي من الجبال التى لو أنزل عليها تراها خاشعة متصدعة من خشية الله، البحث عن كل ذلك يعد نظرية فلسفية، لماذا؟، لأن بناء النظرية كما ذكرت يبدأ بفكرة ثم بعد ذلك نتابعها وننظر لها.
ثم حتى في إشكالية البحث عن الله تعالى، وإثبات وجوده، واجتهادات الفلاسفة في تقديم أدلة أقاموها على العقل مدعوما بما وجدوه في القرآن الكريم، فليس ثمة تعارض بينهما لأن الوحي من عند الله والعقل من عند الله فليس ثمة تعارض بينهما لأن كليهما مصدره واحد الله سبحانه وتعالى وآيات القرآن التى نستخلص منها النظرية الفلسفية كثيرة هي فنجد على سبيل المثال (قل انظروا ماذا فى السموات والأرض)، أليس كل ما نشاهده في هذا الكون العظيم دليل دامغ على وجود الله، أليست عنايته واهتمامه بكل الموجودات دليل ونظرية فلسفية نستقيها من القرآن الكريم.
ليس هذا وحسب وحديث القرآن الكريم عن خلق العالم وعناصره الأربعة الماء (وجعلنا من الماء كل شيئ حي)، الهواء (وتصريف الرياح والسحاب)، التراب (فإنا خلقناكم من تراب)، النار (والجآن خلقناه من نار السموم).
والإنسان روحه ونفسه وصفاتها، وخلقه، وجمعه بين كل المتناقضات الحب، الكره، الخير، الشر، الحسن والقبيح، الجميل جمال الشكل، الجليل، جمال الروح ومن خلالهما نصل إلى المقدس، أليس كل ذلك ورد في القرآن الكريم، ليس هذا وحسب بل وحياته وحياته بعد مماته، وجزاءه، وهل هذا الجزاء سيقع على الروح والجسد أم سيقع على النفس فقط أم سيقع على الجسد، أو على كليهما، كذلك إرادته وحريته وتحمله لنتيجة اختياراته.
وأيضا حتى بناء منظومة متكاملة للقيم الخلقية الحق، الخير، الجمال، العفة، الشجاعة، الاستبصار، الفهم، الروية، التعاون، السلام، التسامح، الإخوة الإنسانية، العدالة ممثلا في قوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي )، يأمر بمكارم الأخلاق إيجابا، وينهى عن الرذائل.
ذلك هو كتاب الله.
آراء حرة
في فلسفة القرآن الكريم
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق