على مائدة «البوابة» الثقافية خلال شهر رمضان، مثقفون وأدباء يتحدثون عن البدايات وكيف تكونت شخصية المثقف، ومدى تأثرهم بالأدب العربى والعالمى، ذكريات وطقوس المثقفين خلال الشهر المبارك، الدراما ومسلسلات رمضان من وجهة نظر المثقفين، ونصائح للجيل الجديد والشباب.. حوارات يومية على مدار الشهر، موعدنا اليوم مع حوار جديد من حوارات رمضان الثقافية مع الشاعر محمود قرني
الطريق إلى الشعر
منذ أن عرفت الطريق إلى الشعر، قارئا له ثم كاتبا عنده، يترسخ يقيني بأن الأصل في الشعر عدم خضوعه لتاريخ تمليه المصلحة، فهو منذ أفلاطون يبدو بين أعلي تعبيرات الإنسان الحر باعتباره نشاطا تلقائيا لا تحكمه سوي محددات موضوعية تحتقر السياسة والأيديولوجيا علي نحو خاص.
عوالم القرية
عوالم القرية التي ولدت فيها لم تكن الأكثر تأثيرا، كانت الأسرة هي صاحبة الدور الجوهري في تكويني رغم أنها أسرة لم تكمل تعليمها، الأم تقرأ وتكتب إلا قليلا، أما الأب فغادر التعليم مبكرا ليفلح في أرض أبيه التي كانت كبيرة نسبيا، لم تكن أسرتنا فقيرة كما لم تكن غنية، كانت ضمن "مساتير" الطبقة المتوسطة في الريف المصري، كان بعض وجهاء العائلة يعدون من أعيان القرية بل والقرى المجاورة، ورث أبي تركة معقولة وورثت عنه الكثير من تعففه وإبائه وأظنني ورثت كذلك سلامة فطرته، كنت أكبر إخوتي وكان أبي لا يترك شأنا يخصني إلا واقتحمه، هذا أقام علاقة متوترة بيني وبينه طيلة الوقت، ثم تفاقم الأمر عندما تبدي له أن اهتمامي بالقراءة والكتابة سيحولان دون إكمالي دراستي، كان محبا للتعليم بشكل شبه مرضي وصديقا لكبار الموظفين والوجهاء، كريما لدرجة كانت موضع سخط إخوته وأعمامه، وكانوا دائما ما يتهمونه بأنه سيضيع تركته وينتهي به الأمر متسولا، لكن ذلك لم يحدث.
مكتبة جدي
وبعد أن كبرت منحني أبي حرية التنقيب في مكتبة صغيرة تركها جدي الذي لم يكمل تعليمه، لكنه كان يملك خطا جميلا وبلاغة قرآنية فريدة، طالعت في تلك المكتبة صحيح البخاري وكتاب "الأمالي " للإمام " القالي" وبعض أجزاء من كتاب "ألف ليلة" وبعض السير الشعبية مثل سيرة الأميرة "ذات الهمة"، وكان أطرف ما وجدته بين أضابيرها بعض الشكاوي التي أرسلها جدي للزعيم عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، كانت سلسلة شكاوي تحت عنوان واحد هو "صرخات في الهواء " ثم يلي العنوان عادة بيت جميل من الشعر يقول: "لا تلم كفي إذا السيف نبا / صح مني العزم والدهر أبي"، عرفت بعد أن كبرت أن البيت لحافظ إبراهيم .
دراستي القانون أهم ما فعلت
أعتبر دراستي للقانون بين أهم ما فعلت، فالقانون أعلى تعبيرات علم المنطق، وهو بدوره أعلي تعبيرات العقل الإنساني الذي أنضجته التجربة، فلا يمكن لعاقل أن يتصور العالم دون فكرة العدالة، وهي أفكار تشكلت لدي الإنسان في رحلة بحثه عن النظام ردا علي شواغل البشرية التي دهست لحمها عجلات الحروب والفوضى والمشاعية والحروب الدينية ومظالم الإقطاع والأبوية والكهانة وأثرياء الحروب، وقد كان غياب فكرة العدالة دافعا من دوافع تنامي مفهوم القوة كأداة لحسم الصراعا.
الانتقال إلى القاهرة 1987
انتقلت إلي القاهرة نهايات عام 1987، عملت محاميا في شركة حكومية، كنت أخشي الصحافة والعمل بها، فقد كانت نصيحة كبار الشعراء لي أن الصحافة قاتلة للمبدع، بعد ذلك عملت بالصحافة لكن كان لدي من النضج ما يحميني من غوائلها ومن ارتباكاتها وامتيازاتها التي تستطيع خلق مراكز نفوذ ودوائر مصالح مدمرة في نهاية الأمر، كنت حريصا علي ألا تكون الصحافة سببا في حصولي علي امتياز من أي نوع، لأنني كنت أعلم أنني سأتركها يوما ما، وقد حدث ذلك بالفعل بعد أن استقلت من جريدة القدس العربي بعد 14 سنة من العمل عقب أن اشترتها قطر.
المثقفون المصريون والعرب
أعرف مثقفين عرب ومصريين يهيلون التراب بحركة شفاه علي القوة الناعمة المصرية، وعلي القاهرة كمركز من أهم مراكز الإنتاج المعرفي في الثقافة العربية بل ربما في الشرق كله، القاهرة في حديثي هذا ليست عاصمة للساسة المهزومين كما أنها ليست عاصمة حكامها بأي حال، القاهرة جميلة ومخيفة ومغرية ككل العواصم الكبرى، ككل حاضرة تعزز فكرة الإنسان الحر وتقوض بالتالي صورة النسيج العشائري والقبلي، وكما أحببت القاهرة تشردت في شوارعها أيضا، وامتهنت أحقر المهن مخافة أن أعود مهزوما إلي مسقط رأسي، فهذا كان يعني نهايتي، كان أبي يراهن علي تلك الهزيمة ليكرهني علي العودة إلى قريتي، كان يحلم بأن أبقي إلي جواره.
جنوني بالشعر
كان جنوني بالشعر ومساجلات الكبار الذين تعلمت عليهم شاخصة أمام عيني . القاهرة كانت بالنسبة لي أعلي تعبيرات الثقافة المخترقة التي افتقدتها بعيدا عن مركزيتها القاتلة والساحرة، كانت الأطواق التي تحيط رغبتي في التجدد تقلص قدرتي علي المغامرة في إطار ثقافة يبدو احتفاءها بأصالتها مشوبا بالمزيد من المبالغة، ومع أن القاهرة فتحت لي ذلك الأفق المجرب علي مصاريعه إلا أنني لم أكن متحمسا للانخراط في صالونات كان يقيمها وجهاء في الحركة الثقافية في الثمانينيات والتسعينيات، كانت فكرتي عن استقلال نصي دون أن أتبع ظلال غيري فكرة ترتقي إلي مرتبة القداسة.
قصيدة النثر
وصف قصيدة النثر بأنها ذات جذر غربي ليس وصفا قيميا، بل هو وصف تاريخي وجمالي يحاول الوصول إلى جوهر ومرجعيات النص حتى يكون بإمكاننا تطوير جمالياته في إطار مرجعياتنا الثقافية بما في ذلك مؤثرات المكان وتجلياته، فالبلاغة العربية تختلف عن البلاغة اللاتينية في فهم الشعر، الشعر في الثقافة اللاتينية ليس فنا لغويا فحسب لكنه فن موضوعي ينتمي إلى نظرية المعرفة، ويبدو إيمانه بفكرة الصنعة كبيرا، والصنعة هنا ليست رديفا لانعدام الموهبة، بل هي تساوي المعرفة.
موقع الشعر في أيامنا
وأخيرا .. يبدو أن السؤال الأصعب الذي يمكن أن يواجهك به قارئ عابر هو أين موقع الشعر في أيامنا ؟! العقلاء طبعا سيقولون لك إن الشعر مازال حاضرا، وسيضيفون أنه سيظل كذلك ما بقي الإنسان، وأنا طبعا أتمني أن أتقاسم مع هؤلاء العقلاء برجهم الآمن هذا، لكن هذا يعني أن نؤمن، دون سخرية، بمفهوم العرب والشرقيين عموما للشعر باعتباره كتابا مقدسا كما يقول بورخس، لكنني لا زلت أتصور أن علينا امتلاك جسارة التشكيك في تلك القداسة، ليس لأن الشعر تنازل عن ميراثه المقدس، وبلغة أيامنا فإن الشعراء وقعوا صرعي مراياهم فاختصروا قضية الإنسان في إطار فلسفات فردية، تعاظمت معها عزلة الشاعر وتعاظم معها تآكل الحس التاريخي وتعمق طابع المنفعة حيث تم التعامل مع الشعر باعتباره نوعا من اللعب، من هنا لم أصدق في أية لحظة أن الشعر أغنية يسلي بها الشاعر نفسه كما قال شيللي، فقد ساهم إيمان الشعراء بمثل هذه المقولات في تعميق العزلة التي يعاني منها الشعر والشاعر.