إن الله يجتذب خليقته لتكون معه وهي بدورها تبحث عمن هو مبدأ وغاية كيانها.
ولو فشل الإنسان ببحثه عن الله و حتى رفضه و دخل في حالة اليأس والموت لا بد أن يعود ليدرك أن هناك العناية الإلهية ما زالت تعمل بمحبة لتقيم الإنسان على رجاء حياة جديدة.
لقد أوحى الله عن نفسه، وأقام العهود مع الإنسان وكلَمه بالقديم بالأنبياء وفي تمام الأزمنة قال كل شيء بالمسيح (عب1،1-2). الإيمان بيسوع المسيح وبمن أرسله ضروري للحصول على الخلاص "إذ إنه بدون الإيمان لا يمكن لأحد أن يرضي الله (عب11،6). لكي نحيا ونثبت بالإيمان الى المنتهى ، يجب ان نغذَيه بكلمة الله وأن يُعمل بالمحبة (غل 5، 6)و أن يُحمل في الرجاء.
موت وقيامة المسيح
الإيمان بالله الآب الكليَ القدرة يُمتحن أمام تجربة الشر، الألم والموت، لكن الله أظهر كامل محبته وقدرته بتنازل ابنه الطوعي حتى الصليب وبموته كسر شوكة الموت. وهكذا فالمسيح المصلوب هو " قدرة الله و حكمته"؛ لأن ما هو جهالة عند الله ، أحكم من الناس، و ما هو ضعف عند الله، أقوى من الناس " ( 1 كور ، 25). عندما يسلَم الله ابنه من أجل خطايانا ، يظهر مدى تصميم محبته “ التي لا تقوم على أننا أحببنا الله بل هو نفسه أحبَنا و ارسل ابنه كفَارة عن خطايانا ( 1يو4 ، 10). فيسوع مبدأ الحياة ”أباد بالموت" من كان له سلطان الموت أي إبليس، وأعتق أولئك الذين كانوا، الحياة كلَها خاضعين للعبودية خوفاً من الموت (عب 2، 14-15).
فالمسيح وقد قام، أصبح "في يده مفاتيح الموت والجحيم" (رؤ 1، 18). القيامة هي مركز إيماننا وبدونها يُبطل ( 1كو 15 ،14). كما القيامة هي دليل على ألوهيَة المسيح "فإذا ما رفعتم ابن الإنسان فعندئذ تعرفون أني أنا هو (يو8، 28).
هناك وجهان للسر الفصحي: إنه بموته يحرَرنا من الخطيئة و بقيامته يفتح لنا المدخل إلى حياة جديدة " فدفنَنا معه في موته بالمعموديَة لنحيا نحن ايضاً حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب (رو6، 4).
ـ نؤمن إيماناً ثابتاً، وبالتالي نرجو، انه كما أن المسيح قام حقاً منبين الأموات، وأنه يحيا على الدوام، كذلك الصديقون من بعد موته مسيحيون على الدوام مع المسيح القائم، وأنه سيقيمهم في اليوم الأخير. وقيامتنا، على غرار قيامته، ستكون عمل الثالوث القدوس:
ـ لفظة "الجسد" تعنى الإنسان من حيث وضعه الضعيف والمائت. "وقيامة الجسد" تعنى انه بعد الموت لن يكون فقط حياة للنفس الخالدة، ولكن حتى "أجسادنا المائتة" إن كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحيى أيضا أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11) أي ستعود إليها الحياة.
ـ الاعتقاد بقيامة الأموات كان أحد عناصر الإيمان المسيحي الأساسية منذ بدايته "هناك اقتناع لدى المسيحيين: قيامة الأموات، وهذا الاعتقاد يحيينا ويمدنا بالرجاء"
قيامة المسيح وقيامتنا
ـ إن قيامة الأموات قد كشفها الله لشعبه تدريجياً. فالرجاء بقيامة الأموات في الجسد قد ثبت كنتيجة ضمنية للإيمان بإله خلق الإنسان بكامله جسداً ونفسا. فالذي خلق السماء والأرض هو أيضا الذي يحفظ بأمانة العهد مع إبراهيم ونسله. في هذه النظرة المزدوجة تم أولاً التعبير عن الإيمان بالقيامة. فالشهداء المكابيون اعترفوا في وسط مضايقهم :
إن ملك العالم، إذا متنا في سبيل شرائعه، سيقيمنا لحياة أبدية" (2 مك 7: 14)
ـ الفريسيون وكثيرون من معاصري الرب كانوا يرجون القيامة وقد علمها يسوع على وجهه ثابت. فأجاب الصدوقيون الذين ينكرونها: "أولستم على ضلال لأنكم لا تفهمون الكتب، ولا قدرة الله؟" (مر 12: 24 ). الإيمان بالقيامة يرتكز على الإيمان بالله الذي "ليس هو إلهأموات بل إله أحياء" (مر 12: 27)
ـ ولكن هناك أكثر من ذلك فقد ربط يسوع الإيمان بالقيامة بشخصههو: "أنا القيامة والحياة" (يو 11: 25 ). يسوع نفسه هو الذيسيقيم في اليوم الأخير الذين آمنوا به وأكلوا جسده وشربوا دمه. وقد أعطى عن ذلك من الآن علامة وعربوناً، بإعادة الحياة لبعضالموتى، منبئاً بذلك بقيامته الخاصة، مع أن هذه ستكون من نوع آخرعن هذا الحدث الفريد يتكلم داعياً إياه "آية يونان"، وآية الهيكل: فهو ينبئ بقيامته في اليوم الثالث من بعد موته.
ـ الشاهد للمسيح هو "الشاهد لقيامته" (أع 1: 22 )، الذي أكل وشرب "معه من بعد قيامته من بين الأموات" (أع 10: 41 ). الرجاء المسيحي بالقيامة يحمل في جملته آثار اللقاءات مع المسيح القائم ستقوم على مثاله، ومعه، وبه.
ـ منذ البدء اصطدم الإيمان بالقيامة بكثير من عدم التفهم والمقاومة."لم يلق الإيمان المسيحي مجابهة على أية نقطة كما يلقى على قيامة الجسد. إذ أنه لمن المقبول بنوع عام أن تستمر حياة الشخص بعد الموت بشكل روحي. ولكن كيف السبيل إلى الإيمان بأن هذاالجسد المائت، وموته ظاهر للعيان بكل جلاء، يقدر أن يقوم إلى الحياة الأبدية؟
كيف يقوم الأموات
في الموت، الذي هو انفصال النفس والجسد، يسقط جسد الإنسان في الفساد، فيما تذهب نفسه لملاقاة الله، على أنها تبقى في انتظار اتحادها من جديد بجسدها الممجد. فالله، في قدرته الكلية، سوفيعيد الحياة غير الفاسدة لأجسادنا موحدًا إياها بنفوسنا، بفضل قيامة يسوع.
ـ من سيقوم؟ جميع الناس الذين ماتوا :"فالذين عملوا الصالحات يقومون للحياة، والذين عملوا السيئات يقومون للدينونة" (يو 5: 29)
ـ كيف؟ لقد قام المسيح في جسده الخاص: "انظروا يدي ورجلي؛فإني أنا هو" (لو 24: 39 ). لكنه لم يعد إلى حياة أرضية. على هذا النحو، فيه، "سيقوم الجميع، كل بجسده الخاص الذي له الآن"، غير أن هذا الجسد سيتحول إلى جسد على صورة جسد مجد المسيح، إلى "جسد روحاني" (1 كو 15: 44)
"ولكن، قد يقول قائل: "كيف يقوم الأموات؟ وبأي جسد يرجعون؟ ياجاهل ! إن ما تزرعه، أنت، لا يحيا إلا إذا مات. وما تزرعه ليس هو الجسم الذي سيكون، بل مجرد حبة (…) يزرع [ الجسد] بفساد، ويقوم بلا فساد؛ (…) فنهض الأموات بغير فساد (…). إذ لابد لهذاالكائن الفاسد أن يلبس عدم الفساد، ولهذا الكائن المائت أن يلبس عدم الموت" (1 كو 15: 35 ـ 37، 42، 52 ـ 53)
ـ هذه "الكيفية التي بها تتم القيامة" تتخطى تصورنا وتفكيرنا. ولايمكن الوصول إليها إلا بالإيمان. بيد أن اشتراكنا في الافخارستيايعطينا منذ الآن تذوقاً مسبقاً لتجلى جسدنا بالمسيح. وهذاما نعلنه"لقد توفي احدهم على رجاء القيامة"
"كما أن الخبز يأتي من الأرض، من بعد تقبله استدعاء الكاهن الروح القدس ، لا يعود خبزاً اعتيادياً، بل يصير إفخارستيا مكونةمن عنصرين، أحدهما أرضى والآخر سماوي، كذلك أجسادنا التينشترك في الافخارستيا لا تعود فاسدة كما كانت، إذ إن لها رجاءالقيامة.".
ـ متى؟ بوجه نهائي "في اليوم الأخير" (يو 6: 39 ـ 40، 44، 54؛11: 24)؛ "في نهاية العالم" فقيامة الأموات مرتبطة ارتباطاً وثيقاًبالمجيء الثاني للمسيح.:
"لأن الرب نفسه، عند إصدار الأمر، وعند صوت رئيس الملائكةوهتاف بوق الله، سينزل من السماء، فيقوم الراقدون في المسيح أولا" (1 تس 4: 16)
قائمون مع المسيح :
ـ إن صح أن المسيح سيقيمنا "في اليوم الأخير"، فصحيح أيضاأننا، منذ الآن، على نحو ما، قائمون مع المسيح. فالحياة المسيحيةهي، بفضل الروح القدس، منذ الآن على الأرض، اشتراك في موتالمسيح وقيامته:
"تدفنون مع المسيح في المعمودية، وتقومون معه، لأنكم آمنتم بقدرةالله الذي أقامه من بين الأموات (…) لقد قمتم مع المسيح، فاطلبواإذن ما هو فوق حيث يقيم المسيح جالساً عن يمين الله" (كو 2: 12؛3 :1).
ـ المؤمنون، وقد اتحدوا بالمسيح بالمعمودية، يشتركون منذ الآناشتراكاً حقيقياً في حياة المسيح القائم السماوية، ولكن تلك الحياةتبقى "مستترة مع المسيح في الله" (كول 3: 3 ). "معه أقامنا، ومعهأجلسنا في السماوات، في المسيح يسوع" (أف 2: 6) نحن منذالآن خاصة جسد المسيح، إذ قد تغذينا من جسده في الافخارستيا. وعندما ستقوم في اليوم الأخير، "فحينئذ نظهر أيضا معه فيالمجد" (كول 3: 4)
ـ في انتظار ذلك اليوم، جسد المؤمن ونفسه يشتركان في كرامة منيكون "في المسيح". مما يقتضى أن يحترم جسده الخاص، ويحترمأيضا جسد الآخر، ولا سيما عندما يتألم:
"الجسد للرب، كما أن الرب للجسد. والله، الذي أقام الرب، سيقيمنانحن أيضا بقدرته. أما تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟(…) وأنكم لستم بعد لأنفسكم (…) فمجدوا الله إذن فيأجسادكم" (1 كو 6: 13 ـ 15، 19 ـ 20)
: الموت في المسيح يسوع
ـ ليقوم الإنسان مع المسيح، عليه أن يموت مع المسيح، عليه أن"يتغرب عن الجسد ليستوطن عند الرب" (2 كو 5: 8) في هذاالانطلاق الذي هو الموت، تنفصل النفس عن الجسد، وستعاد إليهاوحدتها مع جسدها في يوم قيامة الأجساد.
ـ "أمام الموت يبلغ لغز الوضع البشرى ذروته" الموت الجسدي هو،على نحو ما، طبيعي، ولكنه، في نظر الإيمان، "أجرة الخطيئة" (رو6: 23 ). وهو، للذين يموتون في نعمة المسيح، اشتراك في موتالرب، للتمكن من الاشتراك أيضا في قيامته.
ـ الموت خاتمة الحياة الأرضية. حياتنا تقاس بالزمن، الذى فى مداهنتغير ونشيخ وكما عند كل الكائنات الحية على الأرض، يبدو الموتانتهاء الحياة الطبيعى. هذا الوجه من الموت يسم حياتنا بطابع ملحّ: فهندما نتذكر أننا مائتون، نتذكر أيضا انه ليس لنا سوى وقتمحدود لتحقيق حياتنا:
"أذكر خالقك فى أيام شبابك (…) قبل أن يعود التراب إلى الارضحيث كان، ويعود النفس إلى الله الذى وهبه"(جا 12: 1،9).
الموت عاقبة الخطيئة: أن السلطة التعليمية فى الكنيسة، بصفتها المفسرة الأصيلة لما يؤكده الكتاب المقدس والتقليد، تعلم أن الموت دخل العالم بسبب خطيئة الانسان وإن كان الانسان يملك طبيعة مائتة، فالله كان يعده لعدم الموت. فالموت إذن كان مناقضاً لمقاصد الله الخالق، وقد دخل العالم كعاقبة للخطيئة. "فالموت الجسدى،الذى لولا الخطيئة لنجا منه الإنسان"، هو إذن "عدو الإنسان الأخير" (1 كور 15: 26) الذى يجب الانتصار عليه.
ـ المسيح حوّل الموت: أن يسوع، ابن الله، قد خضع هو أيضا للموتالذى هو خاص بالوضع البشرى. ولكنه، وعلى الرغم من إضطرابهإزاءه، قبله فى فعل استسلام كلى وحر لمشيئة أبيه. أن طاعة يسوعقد حولت لعنة الموت إلى بركة.
معنى الموت المسيحي :
ـ للموت المسيحى، بفضل المسيح، معنى إيجابى: "الحياة لى هىالمسيح، والموت لى ربح" (فى 1: 21 ). "وما اصدق هذا القول: إننحن متنا معه، فسنحيا معه" (2 تى 2: 11). هنا تكمن جدة الموتالمسيحى الأساسية: بالمعمودية، المسيحى هو منذ الآن سرياً "ميتمع المسيح، ليحيا حياة جديدة؛ وإن نحن متنا فى نعمة المسيح، يتمالموت الطبيعى هذا " الموت مع المسيح"، وينجز هكذا انضمامنا إليهفى عمل فدائه "إنه أفضل لى أن أموت فى (…) المسيح يسوع منأن أملك على اقاصى الأرض. هو الذى التمسه، من مات لأجلنا؛ هوالذى اريده، من قام لأجلنا ولادتى تقترب (…)، دعونى أحصل علىالنور الصافى؛ ومتى بلغت إلى هناك، أصير إنساناً"
ـ فى الموت يدعو الله الإنسان إليه، لذلك يستطيع المسيحى أن يشعرإزاء الموت برغبة مماثلة لرغبة القديس بولس: "ارغب فى الانطلاقفأكون مع المسيح" (فى 1: 23 )؛ ويستطيع أن يحول موته إلى فعلطاعة
"إن رغبتى الأرضية قد صلبت، (.. .) إن بين أضلعى نبع ماء حتىيهدر فى داخلى قائلاً "تعال إلى الآب"
"أريد أن ارى الله، ولكى أراه يجب ان أموت"
(القديسة تريزيا)"أنى لا اموت، بل أدخل الحياة"
ـ الرؤية المسيحية للموت تعبر عنها تعبيراً مميزاً ليترجيا الكنيسة:لكل الذين يؤمنون بك، يارب، الحياة لا تنهدم بل تتحول؛ وعندماتنتهى سكناهم على هذه الأرض، لهم منذئذ منزل أبدي في السماوات."
رجاء القيامة:
ـ الموت هو للإنسان نهاية رحلته على الأرض، نهاية زمن النعمةوالرافة الذى يقدمه له الله ليحقق حياته الأرضية وفقاً للقصد الإلهى،ويقرر مصيره الأخير. ومتى انسلخ "مجرى حياتنا الأرضيةالوحيد"، لن نعود مرة أخرى إلى حياة الأرض. "فالناس لا يموتونإلا مرة واحدة" (عب 9: 27) لا "تقمص" بعد الموت.
ـ تشجعنا الكنيسة على ان نهيىء أنفسنا لساعة موتنا ("نجنا ياربمن الموت المفاجىء وغير المتوقع": طلبة القديسين القديمة)، واننطلب إلى والدة الإله ان تشفع فينا "فى ساعة موتنا" (صلاة"السلام عليك يا مريم")، وان نودع ذواتنا القديس يوسف، شفيعالميتة الصالحة:
"فما كان احراك أن تسلك، فى كل عمل وفكر، سلوك من كان موشكاأن يموت اليوم. لو كان ضميرك صالحاً، لما كنت تخاف الموت كثيراً. تجنب الخطايا خير من محاولة الهرب من الموت. أن كنت اليوم غيرمتأهب، فغداً كيف تكون مستعداً"
"الحمد لك، رب، لأجل أخينا الموت الجسدى، الذى لا يستطيع أىأنسان حى ان ينجو منه الويل الذين يموتون فى الخطايا المميته،طوبى للذين يلقاهم فى إرادته القدوسة، فالموت الثانى لن يضرهم."
عندما نسمع عن الدينونة والأبدية أو نفكر فيهما ينتابنا قلق وخوف من المجهول.
وظلت فكرة القيامة العامة والحياة الباقية تشغل أفكار الجميع، فهي حياة لم يختبرها أحد من قبل ليروي لنا عنها أو يصفها، وفي المرة الوحيدة التي صعد فيها إنسان ورآها، حتى هذه الخبرة لم يجد مار بولس ما يعينه علي وصفها أو تشبيهها، فقال: "وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُمح لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا" (2 كو 12: 4) وبتعبير آخر "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ" (1 كو 2: 9) والمقصود بهذا هو أن أجمل ما رأته عين بشرية في هذه الحياة يقصر في الواقع عن أن يعكس المجد الذي هناك.
إذن فالحياة الأبدية وكما خبرها معلمنا بولس الرسول للحظات أو لدقائق ربما، كانت أروع من أن يعبر عنها، وعندما أراد القديس يوحنا الرسول أن يصف أورشليم السماوية، بحث هو الأخر في أرضنا وعالمنا الترابي فلم يجد سوي الأحجار الكريمة ليصف بها ذلك المجد مثل: "يشب... جمشت... زمرُد.. إلخ." ومع ذلك فهذه أرضية ترابية وأما تلك فأبدية باقية.
كتاب ايوب يعطي تصوَر أوضح، قائلًا: "هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغْبِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا، لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ" (أي 3: 17-19) ؛ أنها حياة تتسم بالكمال، ثم أدركنا أخيرًا أن الحياة الأبدية هي الله ذاته، وأنه في معرفته (بالمسيح يسوع أبنه) معرفة لهذه الحياة، . "وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يو 17: 3).
إن الله هو الهدف المشترك ما بين الحياتين، هو مصدر كل فرح وطمأنينة، ولعل ذلك يفسر قول المخلص "لأَنْ مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ" (لو 17: 21) وذلك في رده على سؤال الفريسيين له عن موعد الملكوت ومتى.
وقد كان المؤمنون في أول عهدهم بالإيمان مثقلون بفكر إسكاتولجي (أخروي) حيث كانت المناداة في الوعظ والإرشاد تلِح بأن المسيح على الأبواب... ولن يبطئ، ويؤكد بولس الرسول لهم ذلك بقوله " نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ" (1 كو 10: 11) وشاع تداول تعبير مارانا ثا للإشارة إلى اللهفة الشديدة إلىمجيء الرب، وكان هذا النداء ينعش المؤمن ويجدد فيه الرجاء. هذا وقد نما بقوة الاعتقاد بظهور الرب الوشيك،. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ" (رؤ 22: 20).
وقليلًا قليلًا ولأن يوم الرب يأتي كلص، وشعر البعض بأنهم انتظروا طويلًا، فقد تحرًك الشك في قلوبهم من جهة مجيء الرب، وكتب بولس الرسول يشجع مثل أولئك، في رسالته إلي العبرانيين. ويلاحظ أن تعبير "وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ" (مت 25: 5) يجب أن يُفهم علي أن العذارى قد ملَوا الانتظار فناموا، لا أن الرب أبطأ، فهو آت في الوقت المحدد من جهته ولن يعقه أحد!!
ثم انتهز قوم ذلك فشككوا في الأمر برمته، إلي هذا أشار القديس بطرس قائلًا: "أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ الأَيَّامِ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاق هكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ" (2 بط 3: 3-4).
ويجب الانتباه إلى أنه قد لا يأتي المسيح (أقصد المجئ الثاني "الباروسيَا") هذا اليوم أو هذه السنة، ولكن الكثيرون سيذهبون إليه عندما ينحلون من هذا الجسد، ومن هنا يجب الاستعداد دائمًا.
وقد ربط الرب بين الفرح والرجاء عندما ملأ الحزن قلوب تلاميذهبسبب إعلانه لهم عن موته، وإذ أراد أن يُبدل حزنهم بالفرح، كلّمهمعن الرجاء الخاص برؤيته لهم قائلاً: «فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَحُزْنٌ. وَلَكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْمِنْكُمْ» (يو16: 24)
قال البابا فرنسيس: "لكي نكون رجال رجاء علينا أن نعيش بدون أن نتعلّق بشيء وأن نعيش في توق للقاء الرب؛ أما إن فقدنا هذا المنظار تصبح حياتنا راكدة وتفسد.
وأضاف إن الرجاء هو كمن يرمي المرساة إلى الجهة الأخرى وكمن يتوق نحو اللقاء بالرب وإلا فسينتهي به الأمر بالفساد وتتعرض الحياة المسيحية لخطر أن تصبح مجرّد عقيدة فلسفيّة. اننا نلاحظ كم هو صعب علينا أن نفهم الرجاء. فإن تحدثنا عن الإيمان نحن نشير إلى الإيمان بالله الذي خلقنا وبيسوع الذي افتدانا وإلى تلاوة قانون الإيمان ومعرفة أمور الإيمان الملموسة، وإن تحدّثنا عن المحبة فالأمر يتعلّق بفعل الخير للقريب والآخرين والقيام بأعمال المحبة. ولكن الرجاء يصعب فهمه؛ إنه أكثر الفضائل تواضعًا ووحدهم الفقراء يمكنهم التحلّي به ولذلك إن أردنا أن نكون رجال ونساء الرجاء علينا أن نكون فقراء وألا نتعلّق بشيء. علينا أن نكون فقراء ومنفتحين بقلبنا نحو الجهة الأخرى. فالرجاء متواضع وهو فضيلة نعمل عليها يوميًّا ، علينا أن نتمسك بالحبل ونرى ان مرساة النجاة ثابتة في الجهة الأخرى ونثابر بما يؤتينا به الروح القدس للقيام به لنصل الى ضفَة ميناء الحياة الابدية .
لكي نفهم كيف نعيش الرجاء علينا أن نرى تعليم يسوع الذي يشبّه فيه يسوع ملكوت الله بحَبَّةِ خَردَلٍ أَخَذَها رَجُلٌ وَأَلقاها في بُستانِهِ، وقال هكذا ننتظره بالصبر لكي ينمو ولا نذهب يوميًّا لنتفقّده. إنه صبر المعرفة بأننا قد زرعنا ولكنَّ الله هو الذي ينمّي؛ وبالتالي فالرجاء هو كحرفة يدويّة صغيرة، هو أن نزرع بذرة ونترك الأرض لتنمّيها.
الرجاء هو فضيلة لا يمكن رؤيتها، هي تعمل في الخفاء وتحملنا للذهاب إلى النظر من تحت. فالرجاء يعطينا الأمان والشجاعة للسير بثقة للامام . إن كنت ترجو فلن يخيب ظنّك وبالتالي علينا أن ننفتح على وعد الرب ونتوق نحوه عالمين أن الروح القدس يعملدائماً في داخلنا .
وفي الختام نوجَه نظرنا الى مريم لكي نتأَمل فيها ما هي الكنيسة في سرَها وفي رسالتها وهي تسير في رحلتها الإيمانية . كما نرجو ما ستكون هذه الكنيسة في الموطن الأخير وكأنَنا نعودلنتذَكر ما قالته للخدم في عرس قانا "إفعلوا مهما يقوله المسيح"(يو2، 5) برجاء ان نعود لنتذوق ما بعد هذه الحياة خمر الوليمة السماوية . كما انَ مريم أم يسوع من السماء حيث هي ممجَدة جسداً وروحاً ، تمثَل و تفتتح الكنيسة في إكتمالها في الدهر الآتي ، كذلك على الأرض ، الى ان يأتي يوم الرب ، هي تشَع مثل نجمة الصبح ليقين الرجاء والتعزية امام شعب الله في مسيرة جهاده لبلوغ ملء الملكوت.