الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مفاجآت حول جمع تبرعات للأوكرانيين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تجلب الحروب مفاجآت لم تكن متوقعة، ليست كلها سيئة، والأمر الأكثر إثارة للدهشة في الحرب الأوكرانية كيف واجه الأوكرانيون ومناصروهم تداعيات الحرب على حياتهم واستطاعوا أو يُؤمّنوا موارد لمعيشتهم عن طريق تبرعات من خلال منصة رقمية، برغم الحصار المفروض عليهم واختباء سكان بعض المدن المحاصرة في قباء منازلهم. وهي من التجارب التي تستدعي الوقوف عندها لفهم المغزى الذي تحمله والتعلّم من كيفيّة إدارة المعارك باحتراف على الجانب الاجتماعي بعيدا عن الكفّة العسكرية ولمن تميل. ولعلها تجارب تصلح لتضيء جوانب إنسانية تغفل عنها لغة المدافع.

ولا يشكُّ المراقب للمشهد الآن أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما كان يخطّطُ لهذه الحرب، افترض أنه بعد ثلاثة أسابيع كأقصى حدِّ من البداية سيُلقي خطاب النصر في البرلمان الأوكراني، مرحّبًا به من جديد في حضن روسيا الأم. ربما افترض أيضًا أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سيكون في المنفى على متن طائرة بولندية أو طائرة تحمل أي علم من أعلام حلفائه الغربيين، وأن القوات الروسية ستظل طويلًا تزيل كل الزهور المتناثرة فوق دباباتها والتي ألقى بها الأوكرانيون عند الترحيب بهم.

لكنّ الحروب عندما تندلع غالبًا ما تطول على غير هوى من بدأها وقد تخطىء أهدافها كلمّا امتدَّ أمدها. وهذا درس آخر في العلوم العسكرية يحسب له الحُكماء ألف حسابٍ قبل أن يعلنوا قرار الحرب.

وقد شدّني في يوميّات الحرب ما حدث بشكل يبدو عفويًّا ولكنه في الحقيقة ينمُّ عن تفكير منظّمٍ ومحكمٍ وغير تقليدي، حيث استغل الآلاف منصة رقمية- بطريقة لم يتوقعها أحد- وهي موقع حجز الإقامات "ايربي ان بي" وقاموا بحجز الغرف كوسيلة للتبرع بالمال لمساعدة الأوكرانيين بشكل مباشر وسهل.

يقول المسؤولون التنفيذيون في هذه المنصة إنهم استيقظوا في مطلع شهر مارس ليكتشفوا أن أعدادًا متزايدة يستخدمون موقعهم بطريقة جديدة ومبتكرة حيث حوّلوا تقنية الحجز الخاصة بهم إلى نظام مساعدة من أشخاص خارج أوكرانيا إلى الأوكرانيين.

ومن المفاجآت أنه خلال الأسبوعين الماضيين وصل عدد اللَّيالي التي حجزها أشخاص من 165 دولة أكثر من 430 ألف ليلة في منازل أوكرانية من خلال هذه المنصّة، دون نية بالطبع لاستخدام الغرف، ولكن ببساطة للتبرع بالمال لهؤلاء المضيفين الأوكرانيين، الذين لم يعرف معظمهم شيئا عن هويّة هؤلاء المتبرعين سوى أنهم انتشلوهم من حصارهم وفقرهم وتشريدهم بتحويل مبالغ توفر لهم قوت عدة أيام من أيامهم العصيبة.

ولم يتحقق هذا الأمر هكذا على سبيل الصدفة بل انطلقت قبلها حملات منظّمة في هدوء وبدون جلب الأنظار من شتى أنحاء العالم تدعو إلى مناصرة الأوكرانيين في أزمتهم بعيدًا عن الحكومات والأهداف السياسيّة، واتجهوا إلى استخدام طريقة مبتكرة لا يصلها حظر التحويلات النقدية والعقوبات وتصل مباشرة للناس الذين هم ضحايا في الأصل لمعارك لم يختاروها. لذلك تُرجمت تلك الحجوزات إلى 17 مليون دولار ذهبت مباشرة إلى المضيفين الأوكرانيين.

لوحظ أن المتبرِّعين من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا هم الأكثر حجزًا تليهم أستراليا وألمانيا ودول أوروبية أخرى عديدة. ولا يوجد شعور يضاهي سعادة شخص يختبئ في قبو منزله يصله مقابل استئجار أحد غرف أو طوابق بيته دون استخدامها أبدا. كما لوحظ أيضا أنّ هناك 36 ألف شخص من 160 دولة قد سجّلوا في منصة أخرى، لشركة غير ربحية شقيقة للشركة الأولى، لاستضافة لاجئين فارّين من أوكرانيا في منازلهم.

المغزى هنا أنَّ تحركات المجتمع المدني وحتى المبادرات الفردية والجماعية تستطيعُ أن تصنع فروقًا إيجابية لتحسين ظروف ضحايا الصراعات بطريقة مبتكرة عندما تتوفّرُ الإرادة. صحيح أن الإرادة تُستنفر فقط عندما يمسُّ الخطر أولئك الأكثر قربًا من حيث المصلحة، لكن هذا لا يمنع من أنّ هذه الوسائل غير التقليدية في المساندة والتعاطف وإيصال الدعم والقوة المادية والمعنوية تستحقُّ أن تُدرسَ ولمَ لا التعلّم منها في إدارة بعض أزماتنا التي لا نصنعها وإنّمَا نكون ضحايا لها أيضا دون أن يتحرك ضمير العالم كالعادة.

olfa@aucegypt.edu