الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

الدكتور أندرية زكي يكتب للبوابة: القيامة رسالة التماسك الاجتماعي

الدكتور القس أندرية
الدكتور القس أندرية زكي رئيس الطائفة الإنجيلية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هذه الأيام، نحتفل بذكرى قيامة السيد المسيح، والقيامة هي حجر الزاوية في الإيمان المسيحي. ففي القيامة نتذكر، أننا بعدما كنا أعداء لله، ومنفصلين عنه بسبب الخطية، صالحنا الله مع نفسه، ويذكر الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية "لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ". والمصالحة في الكتاب المقدس تعني إعادة بناء الجسور بين الإنسان وخالقه، هذه الجسور تأتي بالإنسان إلى علاقة جديدة مع الله، لكن الكتاب المقدس يعلن بوضوح أن المصالحة مع الله تتطلب بعدين آخرين للمصالحة هو العلاقة مع الآخر والعلاقة مع الخليقة المحيطة.

ويمكننا القول إن القيامة كانت طاقة نور استطاع التلاميذ من خلالها العودة إلى حياة السيد المسيح واكتشاف معانٍ عميقة وغنية تكمن خلف كلمات ومواقف سمعوها وعاشوها معه، بل يمكننا القول إن القيامة استطاعت أن تُعيد بناء وعي التلاميذ لشخصية المسيا ودوره وتأثيره في الحاضر والمستقبل. كما أن القيامة ساعدت هذه الجماعة الناشئة على التماسك ومواجهة التحديات وبناء مجتمع جديد مؤسَّس على الكرامة الإنسانية وحب الآخر والتضحية من أجل الفقراء، والتأكيد على التوبة الفردية والجماعية والمجتمعية كطريق جديد للخلاص.

هذا التماسك الاجتماعي يمكن التعبير عنه بالبناء الاجتماعي. فمظاهر الحياة المتنوعة يمكن أن تؤلِّف فيما بينها وحدة متماسكة. في هذا السياق يكون القانون هو المنظم للعلاقات الاجتماعية والنظام السياسي والاقتصادي كما تلعب العادات والتقاليد دورًا هامًا في عملية البناء الاجتماعي.

ويوجد العديد من العلامات الهامة لعملية التماسك الاجتماعي من أهمها التوازن الداخلي الذي يساعد المجتمع على الاستمرار في الوجود، كما أن النظرة الكليَّة للمجتمع تساهم في عملية التوازن الداخلي. ومع ذلك لابد من الإشارة إلى أنه لايوجد مجتمع في حالة تكامل تام، فعملية التوازن الديناميكي هي العملية السائدة، والتي تساهم في تغيير المجتمع. هذا التوازن يتحقَّق عندما يتَّفق المجتمع على منظومة القيم الحاكمة ويسعى إلى تطبيق القانون.

هناك عوامل عديدة لاستمرار عملية التماسك الاجتماعي، من أهمها الجوانب المادية والتي تتمثل في العمل والسكن والرعاية الصحية، وغيرها من مظاهر الحياة المختلفة. هذه العوامل الماديّة عندما ترتبط بالأمان والتحرر من الخوف، يحدث داخل المجتمع ما يمكن تسميته بالتفاعل الإيجابي بين الأفراد والمجموعات.

ولكي يتحقق التماسك الاجتماعي لابد من تجاوز المساواة إلى العدالة. إن القوانين والدساتير مكتوبة بطريقة مثالية، لكن هناك فجوة كبيرة بين ما هو مكتوب والممارسات العملية، ومن هنا تأتي أهمية السياق الثقافي كآلية هامة تساعد في تفعيل المكتوب في الواقع.

وهكذا فإن المسيح في قيامته، كانت البركة لا لشعب بعينه، أو قومية بعينها، بل كانت مقدمة للجميع، فبصلب المسيح وقيامته، أزال حائط العداوة محققًا التماسك، لذا يوجه الرسول بولس كلمته لأهل أفسس قائلًا: "أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ... وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ.  وَلكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ... لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ... صَانِعًا سَلاَمًا." (رسالة بولس الرسول لأهل أفسس 2: 12-15).

وفي القيامة زالت الفوارق بين البشر، وهذا ما لم يكن كائنًا قبل مجيء السيد المسيح. القيامة ساهمت أيضًا في بناء مجتمع يستوعب الآخر، ويُعطي مكانًا لجميع الناس من خلال الخروج من النظرة اليهودية الضيقة لربط الإيمان بالعرق، إلى إعلان أن الإيمان يتجاوز العرق، وأن بقية الشعوب من الأمم لهم مكان في المسيحية (أعمال الرسل 15: 7-11). استطاعت القيامة أيضًا أن تحطم حواجز التمييز بين الرجل والمرأة، الفقير والغني، اليهودي والأممي (رسالة بولس الرسول لأهل غلاطية 3: 25-28).

فرسالة السيد المسيح، كانت للجميع، وليس لدين أو عرق أو نوع، وهنا أود أن أشير لبضعة أمثلة، أولها ما ورد في الإنجيل بحسب البشير متى 8: 5-12، في هذا المشهد نجد السيد المسيح يجيب لطلبة قائد مئة، بأن يشفي غلامه، والمفارقة هنا أن قائد المئة لم يكن فقط أمميًّا بل كان أحد جنود المستعمر، إلا أن رحمة السماء لا تعرف فرقًّا بين يهوديًّا وأمميًّا.

وفي الإنجيل بحسب البشير يوحنا 4: 1-26، نجد السيد المسيح يقف ليتحدث على بئر مع امرأة سامرية، وهذا أمر غريب، لدرجة أنه أثار استغراب المرأة أيضًا، لذا قالت للسيد: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟»، فمن المعروف أن اليهود لا يعاملون السامريين. وهي ليست فقط سامرية، بل أيضًا امرأة، وفوق ذلك، فهي امرأة خاطئة، فهي كما قال لها السيد "كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ". إلا أن كل هذه العوامل لم تكن حاجزًا أمام رحمة الله المقدمة للجميع دون تفرقة.

كما نقرأ عنه في الإنجيل بحسب البشير لوقا 19:  -8، حين قابل السيد المسيح، عشَّار (جابي ضرائب) ظالم، ومتواطئ مع المستعمر، مكروه من الجميع، فدعاه لأن يمكث في بيته. يا لها من دعوة، من المؤكد أنها أثارت استياء كثيرين. إلا أن السيد المسيح قلبه مفتوح لتوبة أي شخص، مهما كان شره.

لقد دعانا السيد المسيح لعدم رفض الآخر بل لقبوله، ونحن نحتفل بذكرى القيامة نقدم دعوته الخالدة للجميع: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ" (الإنجيل بحسب متى 5: 44)، فالقيامة دعوة للحب الذي يساعدنا في بناء الجسور، وكذلك تحقيق التماسك الاجتماعي.