بالرغم من دخولنا عام 2022، وظهور أنواع وطرق مختلفة لصناعة الكنافة، إلا أنه تظل أفران "الكنافة البلدي" المميزة صامدة في وجه العصر الحديث والأفران الجاهزة، ويظل لتلك الصناعة روادها الذين يفضلون الوقوف لرؤية الكنافة البلدي أثناء صناعتها بالكوز وعلى الصاج أمام أعينهم ثم يتلقفونها من البائع ساخنة، ليتمتعوا بصينية كنافة مميزة خلال أيام شهر رمضان الكريم.
ومع دخول شهر رمضان المبارك بالتزامن مع أجواء حارة تشهدها محافظة الأقصر، وبالرغم من أنها مهنة قديمة على وشك الاندثار بجانب ماكينات الكنافة الآلي، التي أصبحت منتشرة ومتواجدة طول العام، إلا أن أصحاب أفران صناعة الكنافة البلدي تلك المهنة الشاقة التي تتطلب وجود نار، يسارعون في إنشاء أفرانهم قبل الشهر الفضيل، حتى يستأنفون عملهم، بل وينتظرون قدوم موسم شهر رمضان بفارغ الصبر، ولما لا وهو موسم رزقهم وكسب أقواتهم.
وبالنظر إلى تاريخ تلك الأكلة المميزة، نجد أن الكنافة البلدي تعد من التراث الشعبي المرتبط بشهر رمضان، ومن أهم الحلويات المرتبطة بهذا الشهر، فهي معروفة منذ القدم وكانت تصنع بالمنازل منذ العصر الفاطمي، فيما تشير الروايات التاريخية إلى أن أول من قدمت له الكنافة هو معاوية بن أبي سفيان عندما كان واليا على الشام، وقيل أن أهل الشام صنعوها خصيصا له ليتناولها أثناء السحور، لتسد جوعه الشديد في نهار رمضان، وبعدها انتشرت في مختلف أنحاء البلاد وعرفت باسم "كنافة معاوية".
وأشار آخرون، إلى أن أصل الكنافة يعود إلى عهد الفاطميين في القاهرة، حيث صنعت للخليفة المعز لدين الله الفاطمي، لاستقباله عند دخوله القاهرة في شهر رمضان، ومن ثم انتشرت من مصر إلى جميع الدول العربية وأخذت مكانتها في العصر الفاطمي باعتبارها طعاما للغني والفقير، وفى رواية أخرى، قيل أن الكنافة صنعت لسليمان بن عبد الملك الأموي، كما قيل أن تاريخ الكنافة يعود إلى المماليك الذين حكموا مصر في الفترة من 1250- 1517م.
ومن الطقوس والعادات الرمضانية التي اندثرت الآن، كان عمل الكنافة داخل المنازل والتي كانت أحد معالم رمضان الشهيرة خاصة في قرى الصعيد، حيث كان يوجد في كل بيت صاج وكوز الكنافة الشهير شاهد على ذلك، ولم تكن قد انتشرت بعد أفران الكنافة البلدي ثم الأفران الآلية لصنع الكنافة، وما زالت الأمهات والجدات يتذكرن عمل الكنافة البيتي.
أفران من الطوب والطين تنتشر بالمحافظة
ومع قدوم شهر رمضان الكريم، ظهرت أفران الكنافة البلدي في أنحاء القرى خصيصا بمحافظة الأقصر، وهي مبنية من كتلة مستديرة من الطوب والطين ومثبت فوقها صاج حديدي قطره 110 سم من الأعلى على شكل دائري لصناعة الكنافة البلدي وفتحة في الأسفل يوضع فيها البوص الذي يستخدم في إشعال النار لتسوية الكنافة، وهناك من يستخدم الغاز حيث يتم وضع موقد واسطوانة غاز كبيرة، ولكن يفضل البوص، إذ تستطيع من خلاله ضبط النار، بالإضافة إلى كوب مثقوب "كوز" يتم استخدامه في توزيع العجين السائل على صينية الفرن يصنع منه الكنافة.
"البوابة نيوز" رصدت صناعة الكنافة البلدي التي تعد الأكلة الشعبية الأولى في الصعيد خلال شهر رمضان، وذلك من خلال لقاءات مع أشهر أصحاب الأفران بمحافظة الأقصر، فهي تعد مشروعًا مربحًا لمدة 30 يومًا، على الرغم من ظهور الكنافة الآلي، فهي من المشاريع ذات التكلفة القليلة فهو لا يحتاج إلا مساحة تتراوح ما بين 10 إلى 15 متر مربع، إذ تنتشر أفران الكنافة البلدي في أرجاء المدن والقرى لبيعها وكسب الرزق خلال الشهر المبارك، فهي الطعام السائد لدى البعض من أهالي الأقصر، ومازالت تحتفظ بمذاقها الخاص.
البداية كانت أثناء وقوفنا أمام الصاج والفرن المحروق في أحد الأركان أسفل كوبري أبو الجود بمدينة الأقصر، ومراقبة الشاب "عبده علي" 32 سنة، أحد صناع الكنافة البلدي بالأقصر وهو يقوم بغرف كمية من العجينة والمجهزة من الماء والدقيق من إناء كبير، بالكوز هو شبيه بالكوب ذات فتحات متفرعة من أسفله، لتستقبله حرارة الفرن بشكل دائري منتظم، وتجمع حينما تظهر عليها الحرارة ويتبدل لونها".
وشرح عبده ما يفعله قائلا: أجهز الفرن قبل بداية شهر رمضان بخمسة أيام، وأقف كل يوم منذ بداية الشهر أمام فرن الكنافة من الساعة العاشرة صباحًا وحتى قبيل الإفطار على نيران الفرن، وكل خمسة دقائق تدور يدي بكوز رش العجين على صينية الكنافة الساخنة، وبعد أن تستوي الكنافة، أمسك الدائرة من منتصفها رافعا يدي بالكنافة لأضعها على الطاولة بجواري تبرد وتتهوي"، مضيفا أن الكنافة البلدي لها وضع خاص لأنها تتواجد في رمضان فقط، لأنها تعتمد على السمنة البلدي والسكر، عكس كنافة الماكينة، التي تصنع من المكسرات والخلطات والتي تتوفر طوال العام عكس الكنافة البلدي، يشتاق إليها الناس من رمضان إلى رمضان لذلك عليها إقبال أكبر".
وأضاف، أن عجينة الكنافة البلدي عبارة عن خليط من الماء والدقيق البلدي أو الفينو والملح ومحسن الكنافة البودرة، وتستمر الخلطة أو العجينة لمدة نصف ساعة حتى تخرج مضبوطة، ثم يأخذ منها عن طريق كوز به 6 فتحات من الأسفل وتصب على الصاج بطريقة معينة وتخرج في شكل مخروطي، ويتطلب ذلك مهارة عالية من صانع الكنافة، ويتم تسويتها في غضون دقائق معدودة ثم لمها على الصاج، مضيفا أن "البلدي" أصعب في عجن خليطها من الآلي لأن كل شيء يدوي، فهي معروفة بطريقة صنعها من القرص المدور وعلبة الرش، أما الآلي أو الشعر فهي عبارة ماكينة يوضع بها العجين ليخرج جاهزًا للبيع".
أما في مدينة القرنة غرب الأقصر، فنجد هناك "عم مصطفى أبو دوح" وهو أشهر بائعي الكنافة البلدي بالقرنة، فهو يجهز معداته قبل شهر رمضان بأسبوع كامل، كما يقوم بإعداد مكان تسوية وتطييب الكنافة، والمعدات والعجين بصورة يومية، حيث يستهلك أكثر من 30 كيلو دقيق خلال الشهر المبارك نظراً لإقبال الزبائن والأهالي على شراء الكنافة يوميا، مؤكداً أنها تتكون الكنافة من الدقيق الفينو والمياه، حيث تعجن المياه بالدقيق ثم تصفى وترش بالكوز على الفرن وتترك لدقائق ثم يتم جمعها من على الفرن، وفردها على جرائد ولفها في أكياس للزبائن.
وأكد أبو دوح، أنه رغم دخول الماكينات الآلية لتصنيع الكنافة الحديثة، لكن لازال الأهالي يعشقون الكنافة البلدي التي تصنع بدوائر سميكة نوعاً ما عن الآلية، مؤكداً أن زبائنه ينتظرونه كل عام مع قدوم شهر رمضان المبارك للشراء منه، ليصنعون منها طبق حلو بعد الإفطار في رمضان، فمنهم من يقوم بعملها صينية بالمكسرات والزبيب، ومنهم من يقوم بعملها على شكل صوابع مميزة، وهناك آخرون يقومون بتقطيعها ووضع اللبن والمكسرات عليها، وكل واحد وذوقه وطريقته في الأكل.
وفي القرنة أيضا، نجد "عبد الشافي على" أحد الشباب الذين اتجهوا لإقامة فرن كنافة بالمنطقة الأثرية لاستغلال موسم شهر رمضان حتى لا يقع فريسة للبطالة، وأطلق على الفرن الخاص به "وش الخير" لأنه يضم عدد من شباب الغرب الذين يعانون من البطالة، مشيرا إلى إنه تعلم هذه المهنة من صغره ولكنه اتجه للعمل بالقطاع السياحي وبعد تراجع السياحة عقب ثورة 25 يناير 2011، عاد إلي مهنته القديمة التي أصبحت المصدر الرئيسي لرزقه خلال 30 يوما من كل عام.
وأكد عبد الشافي، أن الكنافة البلدي لها طعم آخر وسعرها في متناول الجميع ويضاف لها فقط سمن وسكر وتصبح جاهزة عكس الكنافة الآلية التي تحتاج من أجل تجهيزها مسكرات وشربات، مؤكدا أن هذا المشروع يجمع العديد من الشباب للعمل به، فهناك 3 ورديات خلال اليوم، وكل وردية تحتاج من اثنين إلى ثلاثة أشخاص، منهم من يقوم بتحضير العجينة، والثاني أمام الفرن للقيام برش الكنافة على الصاج، والثالث يتولي الوقوف على الميزان والبيع للزبائن.
أما في مدينة إسنا، أقصى جنوب الأقصر، نجد هناك "ياسر سعيد الحظ" أشهر بائع كنافة بمدينة إسنا جنوب الأقصر، والذي قال أنه يعمل في تلك المهنة من حوالي 10 سنوات، ويحجز موقعا مميزا بقلب المدينة قبل 15 يوماً من الشهر المبارك، حيث يجهز سرادقه الخاص لكسب لقمة العيش له ولأسرته، مؤكدًا أنه له زبائنه الذين يتوجهون إليه بصفة دائمة خلال الشهر الكريم لثقتهم في منتجه.
وأضاف الحظ، أنه يقوم بعمل الكنافة في الصباح الباكر بكميات كبيرة وينتظر توافد الأهالي عليه بعد الظهر حتى المغرب، ثم يقوم ليلا بعمل خبزة جديدة من الكنافة تساعده طوال الليل، مشيرا إلى أن الارتفاع الأسعار أدى على حالة من الركود حيث كان خلال الأعوام الأخيرة يبيع يوميًا أكثر من 35 كيلو كنافة لرخص سعرها وقتها.
وقال ياسر، أن اسم عائلته "الحظ" ورغم ذلك لم يصل إلى الحظ الخاص به حتى الآن، فهو يعمل بصورة متقطعة كعامل أجرى في الأيام العادية، وخلال المواسم والمناسبات يقوم بالعمل في مشروعات تدر عليه الرزق الحلال، وينتظر أن يبتسم الحظ له فعلا ويعمل في مهنة براتب شهري ثابت ليستطيع الإنفاق على أسرته بصورة دائمة.
فيما أشار محمد أحمد أحد صانعي وبائعي الكنافة بإسنا، أنه استعد لعمل الكنافة قبل رمضان بـ5 أيام من خلال تجهيز الفرن والأنابيب والعجانة وتجهيز السمنة والدقيق، لافتا إلى أنه يعمل بالكنافة منذ أكثر من 30 سنة، ويعمل فترتين يوميا من السادسة صباحا، وحتى السادسة مساء، ثم يبدأ بعدها فترة الليل.
وتابع، أن الإقبال هذا العام ضعيف بسبب ارتفاع سعر الكنافة بسبب تكلفة تجهيزها في المنازل، في ظل موجة الغلاء التي تسببت فيها الأحداث العالمية الجارية، مضيفا: "كنا لا نلاحق على الزبائن خلال السنوات الماضية من كثرة الإقبال، وكنا نبيع في اليوم أكثر من 20 شيكارة، مشيرا إلى أنهم لا يستطيعون بصعوبة بيع 8 شكائر في اليوم، بسبب غلاء السمن والدقيق مما أدى إلى غلاء سعر الكنافة الآلي ووصول سعر الكيلو منها إلى 15 جنيه بعد أن كان بـ12 جنيها العام الماضي.
أهالي: الطعم أفضل من الكنافة الآلي
وحول آراء المواطنين في الكنافة البلدي، قال "أحمد محمود" موظف، " أن الكنافة هي الطبق المفضل على السحور، حيث أنها تقلل من جوع الصائم أثناء النهار، والناس تفضلها بالسمن البلدي أو اللبن والسكر، ونلجأ إليها لأنها رخيص وتتواجد من العام للعام عكس كنافة الماكينات.
وتقول فوزية محمد، ربة منزل، أن الكنافة البلدية تعد أطعم أنواع الحلويات فهي لها طعم ومذاق خاص، وهناك طريقة سهلة جدا لعملها حيث يتم تجهيزها في المنازل بطريقة بسيطة ومعروفة، فيتم وضعها في صينية دائرية وتسخينها على النار مع كوب من اللبن وقليل من السمن البلدي وبعضا من السكر، ويتم تقديمها وتناولها فور نزولها من على النار، فهي أسهل الحلويات فهي تحضيرها بخلاف الكنافة الآلية.