فى تراث الشعر العربى، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسى، كنوز وجواهر لا ينبغى للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، فى محاولة لتحقيق التواصل الضرورى والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
متمم بن نويرة
«فقلتُ له إن الشجا يبعثُ الشجا فدعنى.. فهذا كله قبر مالكِ»
فى حضرة الموت، يحظى البشر بوحدة تفوق وحدتهم الهشة المتهافتة فى حياة تزدحم بالكراهية والتناحر والصراع. يُذكر للموت بالخير أنه أداة عملية للبرهنة على حقائق شتى، لا يتم الانتباه إليها والوعى بها إلا بعد فوات الأوان. الحزن دواء ناجع للغل وسرطان الأطماع المهلكة التى تفقد الإنسان إنسانيته، والقبور التى يمر بها متمم، مسكونا بالفجيعة والألم الذى لا يزول، هى قبر أخيه المغدور. ليس مثل تعبير «الشجا يبعث الشجا» فى الكشف عن عظمة الإنسان وتفرده، فهو كائن عظيم ذو أخطاء وخطايا عظيمة. يجمع بين المتناقضات فى انسجام مرعب مثير للدهشة: الحب والكراهية، الإيمان والكفر، الرقة والعنف؛ وصولا إلى ثنائية الحياة والموت كأنهما شيء واحد.
لا متسع للوم وتوبيخ الباكين على القبور، المجهول منها والمعلوم. البكاء هنا ينصرف إلى فكرة الموت فى المقام الأول، دون نظر إلى ميت بعينه. لا يرى الشاعر، سجين الوجع والفقد، إلا ما يريد أن يراه، وكم يبدو المتعاقلون الناصحون مدعو الحكمة ثقلاء الظل، كأنهم بلا قلب. الإسراف فى الاتكاء على العقل والمنطق الميكانيكى الجاف، فى موقف كهذا، ينم عن خلل إنسانى فادح وجمود فى المشاعر.
مئات السنين، ولا يتبخر سحر البيت المزلزل، وهيهات أن يشعر القارئ المعاصر بشيء من الغربة، ذلك أن الصدق، مثل الحزن، عابر للزمان والمكان واختلاف الأفكار والمعتقدات.