ميَّز اللَّه عزَّ وجلَّ العشر الأواخر من رمضان بميزات جعلتها أفضل ليالي العام، لأن فيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهرٍ، والعمل فيها أفضل من عمل ألف شهر فيما سواها؛ أي ما يقدر بثلاثٍ وثمانين سنة وأربعة أشهر، وكان من حال النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنّ يجتهد في العشر الأواخر من شهر رمضان الواقعة بين ليلة 21 من شهر رمضان إلى آخره ما لا يجتهد في غيرها، ويخصّها عن بقية الشهر بمزيدٍ من الطاعة والعبادة؛ فينبغي على المسلم أنّ يحرص على الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، وأنّ يُحسن اغتنام هذه الأوقات الفاضلة، اقتداءً بالنبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم؛ فقد وصفت السيدة عائشة رضي اللَّه عنها، حال النبي في العشر الأواخر قائلةً: «كان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره» [رواه مسلم]، وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنها قالت: «كان النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» [رواه البخاري]، وزاد [مسلم]: «وجدّ وشدّ المئزر»، وفي هذا الحديث تبين أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها، حال النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم في هذه العشر من اجتهاده في العبادة زيادة على المعتاد، وحث أهله على أداء النوافل والعبادات، وتحصيل خير تلك الأيام، وأنّ يجعل كل الاهتمام في العشر الأواخر لعبادة اللَّه عزَّ وجلَّ، ولا يشغله شيء عنها من أمور الحياة، والمئزر هو الإزار المعروف من الثياب، وشده كناية عن الاستعداد للعبادة، وإشارة للجد والاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، وقيل: هو كناية عن اعتزال النساء، وترك الجماع.
من فضائل العشر الأواخر من رمضان أن فيها ليلة القدر التي اصطفاها اللَّه تعالى من بين الليالي ليُنزّل فيها القرآن الكريم، وهي ليلة تُفصَّل فيها الأقدار، وتتنزّل من اللوح المحفوظ إلى صحف الكتبة من الملائكة، وهذه الأقدار تتضمن أقدار العباد من أمور الدنيا، كالرزق والأجل وغير ذلك وقد وُصفت بذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4]، وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها وهي سورة القدر، وورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري ومسلم]، وفي هذا الحديث يبين النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فضل ليلة القدر، وأنَّ من أحيا هذه اللَّيلة المباركة تصديقًا باللَّه وبفضل هذه اللَّيلة، وفضل العمل فيها، وبما أعد فيها من الثواب خائفًا من عقاب تركه، مُحتسبًا جزيل الأجر غفر اللَّه له ذنوبه السابقة.
يُستحبّ للمسلم تحرّي ليلة القدر، والإكثار من الدعاء بما أرشدنا به النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الدعاء في تلك اللّيلة، وهو: «اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنى»؛ فعن السيدة عائشة رضي الله عنها: «قلت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، بم أدعو؟ قال: "قولى: «اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنى» [رواة ابن ماجة وصححه الألباني]، وهذا الدعاء من جوامع الكلم، ومن دعا به حاز خيري الدنيا والآخرة، وأقل مدة لإحياء ليلة القدر أن تصلى العشاء والفجر في جماعة، وقيام يسير من الليل في التهجد وبصلاة التراويح فعن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعةٍ فكأنما صلى الليل كله» [رواه البخاري] أي: كأنه أحيا النصف الأول من اللَّيل بالقيام والاشتغال بالعبادة، "ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى اللَّيل كله"، أي: بانضمام ذلك النصف إليه، فكأنه أحيا نصف اللَّيل الأخير، ومن علاماتها أنها ليلة صافية، لا حارة ولا باردة، وتَطلع الشمس عقبها لا شعاع لها مُنتشر في الآفاق؛ «اللهم بلغنا ليلة القدر واجعلنا فيها من عتقائك من النار ومن المقبولين».
الدكتور صفوت محمد عمارة، من علماء الأزهر الشريف.