حزب الوفد يفوز بـ90% من مقاعد البرلمان.. ورئيس الوزراء يخسر مقعده
أسفرت ثورة 1919 عن تغييرات جذرية في الحياة السياسية المصرية، وكان أول هذه التغييرات إجراء أول انتخابات نيابية في مصر، جاء ذلك بعد تصريح 28 فبراير، الذى أعطى استقلالًا نسبيًا لمصر، وكذلك بعد صدور دستور 1923 في 19 أبريل بأمر ملكي، ليصدر في ظله قانون الانتخاب في 30 أبريل من نفس العام، ونص الدستور على إقامة حياة نيابية فى مصر، يشارك من خلالها الشعب فى الحكم، ويقضي بتشكيل الحزب الذى يحظى بأغلبية برلمانية للحكومة.
دستور 1923 قسَّم الحياة النيابية لمجلسين (الشيوخ والنواب)، ونص على أن جميع أعضاء مجلس النواب منتخبون، ومدة عضوية المجلس خمس سنوات، بينما كان أعضاء مجلس الشيوخ ما بين المُعينين والمنتخبين، وكان عدد أعضاء مجلس النواب 214 عضوًا واستمر حتى عام 1930، ثم زاد إلى 235 عضوًا، بينما كان عدد أعضاء مجلس الشيوخ 147 عضوًا.
عاشت مصر بعد ثورة 1919 حراكا سياسيا كبيرا، وأدى هذا الحراك إلى أول انتخابات نيابية حقيقية شهدتها البلاد في تاريخها، وفي 13 يناير 1924 شارك الشعب في اختيار برلمان الثورة أو ما سُمي آنذاك بـ«برلمان الشعب».
في 12 يناير 1924، انطلقت أول انتخابات برلمانية نزيهة شهدتها مصر، بمشاركة ثلاثة أحزاب وهي الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني، كان يحيى إبراهيم باشا يشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك، وكان مشرفًا على الانتخابات وتنظيمها، كما خاص الانتخابات عن دائرة منيا القمح بمحافظة الشرقية، بينما مثل حزب الوفد أمامه في نفس الدائرة والد المهندس سيد مرعي.
ويقول أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي سابقًا، في الجزء الأول من كتابه حوليات مصر السياسية والذي يرصد الواقع السياسي عام 1924: "إن البلاد كانت تتلهف إلى النظام الدستوري وكل فريق من أحزابها يسعى جهده ليفوز بالأغلبية أو على الأقل بأكثر عدد ممكن من مقاعد النيابة"، مضيفًا أن حزب الوفد نظم حملاته الانتخابيى في المدن والأرياف، وكان رئيس حزب الوفد سعد باشا زغلول يتمتع بثقة لا حد لها من أهل البلاد بعد مواقفه المشهودة، بينما لم يبدأ حزب الدستوريين الأحرار حملتهم إلا متأخرًا، فيما كان رجال الحزب الوطني بعيدًا عن أملهم في الفوز.
وتابع الكاتب، أن حزب الوفد حقق فوزًا ساحقًا على حساب منافسيه، وحصل على أكثر من 90% من مقاعد المجلس البالغ عددها 214 مقعدًا، لافتًا إلى خسارة يحيى باشا إبراهيم رئيس الوزراء ووزير الداخلية في دائرته الانتخابية أمام والد المهندس سيد مرعي، موضحًا أن هذه الخسارة تدل على قوة حزب الوفد، ونزاهة الحكومة والتزامها الحياد في الانتخابات.
كما ذكر المؤلف أن بعض ممن فازوا من الأحزاب الأخرى أعلنوا على صفحات الجرائد أنهم ممن يتبعون مبادئ سعد، مشيرًا إلى أن النتيجة لم تكن واضحة للعيان حتى بادر سعد باشا بأن وجه في الصحف نداءً إلى الأمة في 18 يناير يهنئها فيها بالنتيجة.
وألقى الكاتب الضوء على أساليب الدعاية الانتخابية التى اتبعتها الأحزاب آنذاك، وهي المؤتمرات الجماهيرية وكان أكبرها المؤتمر الذي نظمه «الوفد» فى نادى سيروس يوم 23 ديسمبر 1923، وحضره عدد كبير من كبار الأمة وعدد حضور وصل إلى نحو 14 ألفا، وخطب زعيم الوفد خطبة طويلة، تحدث فيه عن إلقاء القبض عليه وعلى زملائه ونفيه إلى «سيشيل»، ثم عودته إلى مصر قبل الجولة الأولى من الانتخابات بعشرة أيام فقط، وهاجم سعد حزب الأحرار الدستوريين كمنافس، واتهم زعماءه «رشدى وعدلى وثروت» بأنهم «وزراء الحماية».
وأضاف الكاتب، أن سعد زغلول عندما سئل عما من المفترض أن يترتب عليه نتائج الانتخابات بعد فوزه، قال: "إذا اتبعت القواعد الدستورية وجب على يحيى باشا أن يستقيل أمام حقيقتين كبيرتين الأولى أن البلاد أوضحت رأيها بشكل لا يمكن الشك فيه، والثانية أن رئيس الوزارة قد هزم في الانتخابات وفاز عليه مرشح الوفد"، وحول مدى قبوله تشكيل الوزارة إذا كلفه الملك بها، وكان ملك مصر آنذاك فؤاد أجاب: "سأعمل عندئذٍ ما أراه واجبي نحو الأمة".
وتقدمت حكومة يحيى باشا باستقالتها وتم قبولها يوم 27 يناير 1924، ثم تقابل الملك مع سعد زغلول في 28 يناير وسط حشد جماهيري غفير، وفي الواحدة ظهرًا خرج سعد باشا من السراي الملكية وسط هتاف إلى أن وصل داره وتلا الأمر الملكي رقم 14 لسنة 1924 الصادر له بتشكيل الوزارة.
وعما حدث في الانتخابات يقول الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس حزب الأحرار الدستوريين آنذاك فى الجزء الأول من مذكراته «مذكرات في السياسة المصرية»: «جلست إلى مكتبى وبدأت التليفونات تدق، يالها من ليلة ما كان أعجبها وما كان أقساها! لقد كنا على ثقة من نجاح أشخاص بذواتهم فى دوائرهم، لما لهم فيها من عصبية، ولم يكن يخالجنا أقل ريب فى هذا النجاح، لكن النتائج التى بدأت تصلنا لم تلبث أن زعزعت من ثقتنا إلى غير حد، يدق التليفون ويذكر اسم واحد من هؤلاء الموثوق بنجاحهم، فإذا به سقط أمام خصم نكرة غير معروف».
وأضاف: «كان إسماعيل صدقى باشا، وزير المالية السابق، وعضو وفد المفاوضة مع اللورد كرزون، والمشهود له بالكفاية والتفوق مرشحًا، وينافسه الأستاذ محمد نجيب الغرابلى المحامى بطنطا، ولم يكن ثمة ريب فى أن «الغرابلى» لن يفوز، فلما أعلنت النتيجة إذا به ينجح، وإذا صدقى باشا يسقط، هنالك علت ضجة الحاضرين بغرفتى دهشة وعجبًا، وكذلك كان الأمر فى دائرة سمنود، حيث رشح على بك المنزلاوى ومصطفى بك النحاس، وكنا معتقدين أن المنزلاوى بك سيفوز بأغلبية كبرى، فانتخب مصطفى بك النحاس، ولم ينتخب المنزلاوى، ومن جديد علت ضجة الحاضرين دهشًة وعجبًا وتكرر ذلك».
وشكل سعد زغلول حكومته بعد الانتصار الساحق في أول معركة برلمانية شهدتها البلاد، ووسط تعجب وذهول من كبار الساسة الذين لم يتوقعوا فوز الوفد بالأغلبية، واستمرت وزارة سعد باشا في عملها حتى واقعة الاعتداء على السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام وقتها في 19 نوفمبر 1924، ما أثار حفيظة الحكومة البريطانية وهاج معها الرأي العام في إنجلترا، وهو ما ترتب عليه تقديم سعد باشا استقالة وزارته في 23 نوفمبر من نفس العام، بعد رفض بعض المطالب الإنجليزية التي جاءت ردًا على مقتل السردار وقال في نص استقالته إلى الملك: «مولاي.. أتشرف بأن أرفع إلى جلالتكم أني لم أقبل مسئولية الوزارة إلا لخدمة البلاد تنفيذًا لمقاصدكم السامية، ولكن الظروف الحالية تجعلني عاجزًا عن القيام بهذه المهمة الخطيرة، ولهذا أرجو من مكارم جلالتكم أن تتفضلوا بقبول استعفائي مع زملائي من الوزارة وإني وإياهم مستعدون على الدوام للعمل على ما يرضيكم، أدام علينا نعمة رعايتكم العالية وأدامكم مؤيدين بالعز والإقبال ومضوع كل إكبار وإجلال.. شاكر نعمتكم سعد زغلول».