ناي الطرب والمديح في الصعيد هو كذلك، صنعته الطبيعة من طمي النيل، شكلتها بفراغته ووضعته تحت الشمس الحارقة ليتحول لآلة خارقة تتوارثها الأجيال وتعيش عمر النهر والليل والمواويل.
لهجة عشقت ناي أو ناي ردد صدى لهجة، شعر منثور على أفواه الصغار، وأناس يلعبون بالقافية فرش وغطا وتطاوعهم الحروف دون عناد وتأتي حيثما وحسبما أرادوا.
أسماء كلها أعلام تحفظها العين والأذن وكأنهم ولدوا من بطون الجبال جبالا سيرتهم مواويلهم ومديحهم.. سلسال من النغم أسر القلوب والعقول.
لا فضل لأحد فيهم على الآخر، غير أن الشيخ ياسين دخل القلوب وبات مسموح له اصطحاب ما يشاء من الضيوف
فإذا ما جاء بأحمد الحملاوي، رددنا وراءه:
العز بالحب لا جاه ولا مال
والفخر بالصدق لا عم ولا خال
وكل عز بغير الحب منقطع،
وكل كثير بدون الصدق إقلال
ابن الفارض والتهامي
الغريب أن الشيخ ياسين في ضيافة القلوب أعاد تعريفنا لابن الفارض فقد كنا عهدناه وعرفناه من حيث الديباجة والسبك شاعر لا يضاهي الفحول لكنّه تفوق في المعنى واستطاع الجمع بين الحقيقة والخيال، وتلألأت كلماته في حنجرة التهامي فعلقت بهما الروح وطافت معهما في كل مكان.
انتقادات لرؤيته للحلاج "روحا لا جسدا"
لم يسلم التهامي من الانتقادات حتى أنهم تصيدوا له العبارات والعبرات حينما قال جاء الحلاج إلي في باريس ليستمع لي وأنا أنشد قصيدته "لبيك" وإن كانوا ذهبوا ألى ظاهر المعنى فإنا نؤكد مغزاه، نحن رأينا الحلاج يسمع التهامي ويقول ما أحلاه:
لَبَّيكَ لَبَيكَ يا سِرّي وَنَجوائي
لَبَّيكَ لَبَّيكََ يا قَصدي وَمَعنائي
أَدعوكَ بَل أَنتَ تَدعوني إِلَيكَ فَهَل
نادَيتُ إِيّاكَ أَم نادَيتَ إِيّائي
يا عَينَ عَينِ وَجودي يا مدى هِمَمي
يا مَنطِقي وَعَبارَتي وَإيمائي
يا كُلَّ كُلّي وَيا سَمعي وَيا بَصَري
يا جُملَتي وَتَباعيضي وَأَجزائي
يا كُلَّ كُلّي وَكُلُّ الكُلِّ مُلتَبِسٌ
وَكُلُّ كُلِّكَ مَلبوسٌ بِمَعنائي
يا مَن بِهِ عَلِقَت روحي فَقَد تَلِفَت
وَجداً فَصِرتُ رَهيناً تَحتَ أَهوائي
أَبكي عَلى شَجَني مِن فُرقَتي وَطَني
طَوعاً وَيُسعِدُني بِالنَوحِ أَعدائي
أَدنو فَيُبعِدُني خَوفي فَيُقلِقُني
شَوقٌ تَمَكَّنَ في مَكنونِ أَحشائي
فَكَيفَ أَصنَعُ في حُبٍّ كُلِّفتُ بِهِ
مَولايَ قَد مَلَّ مِن سُقمي أَطِبّائي
قالوا تَداوَ بِهِ فَقُلتُ لَهُم
يا قَومُ هَل يَتَداوى الداءُ بِالدائي
سلطان العاشقين ابن شيخ الحواتكة
لم يقف ابن شيخ الحواتكة التهامي حسانين عند مشاهدة الحلاج، لكنه أكده أنه يشاهد ابن الفارض في الموالد وهو لا يكذب إن قال فالروح ترى مالا تراه العين وليس صعبا أن تخرج روح ابن الفارض من قبرها في المقطم وتصافح الذاكرين حول الأضرحة والذين اجتمعوا ليستمعوا لسلطان العاشقين، فقد كان ابن الفارض معروفا عند المتخصصين في دراسة الشعر الصوفي، ولكن الشيخ ياسين عرفة لكل المحبين نقل معرفته لرجل الشارع الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب فصار المدد مددين:
يا كل ما أبقى الضنى مني ارتحل
فمالك مأوى في عظام رميمة
ونفسي لم تجزع بإتلافها أسى
ولو جزعت كانت بغيري تأست.
التوني هو الأب الروحي
نعم التهامي أعاد تعريف بن الفارض بالعوام، لكن ابن الفارض دعا الشيخ ياسين إلى محافل الكبار فكانا ثنائيا تاريخيا عشقته القلوب والألباب.
وفي حوار سابق للشيخ ياسين قال أن الشيخ أحمد التوني هو الأب الروحي له وأنه لا يختار الكلمات بل الكلمات هي التي تختاره.
التهامي الابن.. نغم من مدد
وقال عن المنشدين الجدد والفرق الجماعية للإنشاد أنه يشجع كل ما هو حقيقى يتعامل مع القلب والروح، والشباب يقدم تطويرا للإنشاد الدينى وهذا شىء يسعده، على حد قوله لكن كانت أبرز التعليقات سلبية على في إحدى حفلات الإنشاد الديني حيث أدخل محمود التهامي وقع موسيقى سريع وهو ينشد مع ابنه وطالبته الجماهير أن يعود لجلباب أبيه.
فهل يستطيع نجل التهامي التحديث في الإنشاد دون أن ينجرف لمجاراة العصر وخصوصا أنه أبرز منتقدي موسيقى المهرجانات وقال عنها متسائلا ومستنكرا: هل هذه ثقافة مصر أم الدنيا مصدرة الفن ورأس القوة الناعمة في العالم؟
نأمل أن يستمر المدد والنغم ويظل لحن الطرب طرحا عذبا في أغصان آل التهامي
ويستكمل محمود التهامي ومن بعده الطريق مع الإنشاد الصوفي، بعدما نجح بتأسيس نقابة المنشدين مع زملائه، ومحمود حاصل على ليسانس لغة عربية من جامعة الأزهر وتمهيدي في علم النفس ودراسات حرة بالكونسرفتوار، أي يجمع بين الموهبة والوراثة والعلم.. والطريق أمامه مفتوح للمزيد من الإبداع.