قبل قرون طويلة، نقل الفلاسفة والمؤرخون صورة عن سقراط مؤسس الفلسفة الأكبر، تتشكل من قدرته على التواصل مع النساء المثقفات والاستفادة منهن، والذهاب لزيارتهن ومناقشة ما لديهن من أفكار جديدة؛ لكنه في نفس الوقت -من المؤسف- كان يحبس زوجته في المنزل، ويحتقر عقلها وتفكيرها.
وفي كتابه "نساء فلاسفة في العالم القديم" تحدث الدكتور إمام عبدالفتاح إمام عن لقاء سقراط بكاهنة تسمى ديوتيما ورد ذكرها في محاورة "المأدبة" لأفلاطون، حيث تعلم منها بعض الأفكار المتعلقة بـ"الحب"، وعن لقائه أيضا بفيلسوفة جاءت إلى أثينا تسمى إسبازيا، وعُرفتْ أنه رفيقة بركليز أكبر السياسيين في المدينة، مشيرًا في ذات الوقت إلى معاملته السيئة لزوجته.
هذه الصورة تطرحها الكاتبة عالية شعيب في رواية "زينة"، الصادرة عن دار السحاب للنشر، بوصفها قضية شديدة الحساسية؛ لأنها بمهارة الفن واحترافية التقاط دراما الحدث قنصت "خطيئة سقراط" أو المغالطات الشنيعة التي يقع فيها عدد كبير من المفكرين والمثقفين الذين يزينون صدارة الندوات والمؤتمرات التنويرية، وفي الوقت نفسه لا يتعاملون بمثل هذه الأفكار التي يروجونها أو يؤمنون بها في بيوتهم وخاصة مع أسرهم الصغيرة.
تشير عالية شعيب، وفق تصورها الفني في عالمها الروائي "زينة" إلى ضرر العادات والتقاليد المتحكمة في مجتمعاتنا دون مراجعة، وإلى الميراث الثقيل من التهميش والإقصاء والتقليل من قدراتها العقلية والفكرية الذي واجهته المرأة منذ خروجها للعالم وخاصة في المجتمعات المحلية والبدائية، كما تمكنت الكاتبة من القبض على خطيئة المثقفين، وقلة شجاعتهم في الذهاب مع أفكارهم إلى التطبيق، ومن المؤسف اليوم أن نرى رجالا يؤمنون بحرية المرأة وينادون بحقوقها لكنهم على المستوى الشخصي غير قادرين على إعطاء مساحة الحرية المناسبة، حيث تقبع النساء في بيوتهم مثلما تقبع في بيوت الآخرين ممن يوصفون بالجهل أو الاستبداد.
ولكن، إذا كان مقصود الكاتبة أن تصنع محاكمة لمجتمعاتنا العربية والمحلية التي تظلم المرأة، لماذا ذهبت إلى شخصية سقراط؟ مع العلم أن التاريخ العربي أيضا يحفل بمثل هذه الشخصيات الكبيرة والتي سقطت في بئر التناقض والمغالطة، وربما تتحدد الإجابة إذا كانت مؤلفة الرواية تحاول أن تدين خطيئة المفكرين في جذورها، أن تشجبها في مهدها الذي سجلته كتب التاريخ دون مواربة.
لا ترغب رواية "زينة" في محاكاة التاريخ، فهو موجود في مصادره المختصة، إنما هي تحاول قيادة الوعي لمناطق غاية في الأهمية، وتراهن على "اللقطة" التي خطفتها من حياة فيلسوف قديم، من حيث قدرتها على التأثير في القارئ، لذا تعمدت الكاتبة تصدير نصها الفني بمقولة الإنجليزي كولن ولسون حول تأثير الأعمال الروائية الذي فاق تأثير ثلاثة من أكبر الفلاسفة: داروين وماركس وفرويد، وتتبعه بتعليق لها حول أهمية فهم الروائي لذاته واستمتاعه بالكتابة.
تخلق "شعيب" العوالم المحيطة بشخصياتها، وتدور الأحداث في بيئة عربية بامتياز، تتضح من خلال: أسماء الشخصيات، التحية المتبادلة، الهموم المشتركة. أيضا في بيئة متمدنة إلى حد ما، نلاحظ مدينة تمتلك مجلسًا يقر تشريعات، ولدى المواطنين "مذياع" تنطلق منه ألوان مختلفة من الموسيقى، وهذا ربما يشير في بعض جوانبه إلى أن المجتمع الذي يتحلى بأدوات من التمدن، لا يعني بالضرورة تخلص شعوبه من رواسب فكرية ضارة، فالغالبية التي تحرك برلمان المدينة ترفض القوانين التي ترفع الظلم عن المرأة، وأيضا هيئة المحاكمة أدانت الفيلسوف لأنه يحث الشباب على التفكير ويساعد في تغيير الوعي، وهو نوع من الوعي المرفوض من قبل السلطة القائمة.
لا تقدم الرواية أحداثا حقيقية عن مجتمع أثينا القديم، بل يلاحظ المتلقي أنه يتحرك في بيئة عربية بكل معالمها وتقاليدها، المجتمع الذي يلوك سيرة بعضه البعض، ويعيب أي مظاهر للتغير، يعرقل جهود أي فتاة تحاول الإفلات من القيم البالية والمعتقدات التي تضعها في بئر غائرة، مجتمع تتحرك فيه المرأة وسط إطار يلزمها بتقاليد ثابتة، لا تتلقى فيه البنت تعليمًا ولا يجب أن يتأثر عقلها بالفلسفة والتفكير المنطقي، فيه تشعر الزوجة أن واجبها هو خلق نسخة مكررة منها في أطفالها الإناث، بحيث لا يتمردن ولا يعترضن، ويستقر طموح الفتاة على انتظار الشاب الذي يطلبها للزواج.
تزخر الرواية بعدد من الشخصيات، تتفاوت في إدراكها ومواقفها: الأم التي لا تتوقف عن إثارة الأزمات مع ابنتها ما يجعل الأخيرة تتهمها بأنها تشعر تجاهها بالغيرة وليس الحب، الأب الذي يبذل كل طاقته في العناية بابنته لكنه يجد نفسه في لحظة عاجزًا فيضطر للهروب، الشاب المُحب الذي تتبدل مواقفه ويتقبل أخطاء الطرف الثاني بل وينتقل إلى دائرته بشكل جزئي، والمُحب الذي يستحوذ على حبيبته ثم يتبدل معها فيدفعها إلى الكراهية والغضب، وكلها مفارقات يعيشها الإنسان، وكلها شخصيات حية تتحرك في محيطنا، وغالبيتها تتأثر بـ"حديث الناس" الذي يلعب دورًا هائلا في تحريك الحدث، واتخاذ القرارات.
رسمت الرواية تفاصيل صورة الفيلسوف بعناية، يلاحظه القارئ شبيهًا بالأنبياء، ويمكن الإصرار على هذا الوصف بعد سرد حادثتين وقعتا مع سقراط، فهو بعد تعنيف أحد السياسيين الداعمين له يصاب بالاكتئاب ويهجر قريته ماضيًا على وجهه في الحقول، لا يعرف عنه أحد شيئا، وهي شبيهة بغياب النبي موسى عن قومه، حيث ظن بعض قومه أنه لن يعود، أما تأملاته التي راح يستعرضها تحت الشجرة، شبيهة بالمواقف التي تصف الأنبياء بتلقي الحكمة والموعظة فوق الجبل، أو تلقى بيعة المؤمنين تحت الشجرة.
ويتحلى الفيلسوف، حسب عالم الرواية، بكونه زاهدا، لا يتقاضى أجرًا مقابل تعليم الشباب، لذا يحلو للكاتبة أن تصور وضع زوجته وهي تدور في الأسواق، والباعة يعرضون عنها لفقرها، بينما زوجها يظل رافضًا تلقي المال، ويمضي بين الناس بملابس متسخة، لا يمكنه شراء الأطعمة الشهية فيكتفي بشم رائحتها في الأسواق، نجده يأخذ سمات المتسول الذي لا يجد ثمن الطعام ويرتدي ملابس بالية، ويحلم كأي رجل بسيط أن يعود إلى منزله فيجد ملابسه النظيفة وحاجاته المرتبة.
أعطت الرواية ملاحظات واضحة "ارتيابية" حول قدرة بعض المفكرين على الذهاب مع أفكارهم للنهاية، أي تطبيقها وتفعيلها، لذا كان من الضروري أن تضع سقراط في المواجهة، وبين صورتين، صورة الملائكي والمعلم الفاضل الزاهد والمفكر العظيم، وصورة المخادع الذي احتقر عقل زوجته وقلل من أهمية خروجها، كل هذا إلى جانب تزوجه منها وهي صغيرة وقاصر، وقبل هذا كانت تراوده أحلام في امتلاك امرأة تعمل لديه كخادمة في المنزل، ترتب الأثاث، وتنظف له الغرف، وتغسل له الملابس..
في النهاية، فإن الصورة السائدة عن سقراط والمتمثلة في تجرعه للسم رافضًا الهرب أو التنازل عن مبادئه وأفكاره، صورة مثالية للغاية، إلى جانب حياة الزهد والتقشف التي قضى فيها عمره، والتي جعلت منه قديسًا أو شخصية ملائكية، وقريبة الشبه من الأنبياء، لكنه وككل البشر لديه خطيئته وكبوته، وهي صورة غير مقصودة بسقراط في ذاته، لكنها تهدف إلى إدانة حبس المرأة والتقليل من عقلها، أو القبول بزواجها وهي ما زالت طفلة..
وعلى الرغم من إجادة الرواية لرسم شخصية "زينة" المثقفة والمتمردة أمام سلطة الأسرة، وأمام سلطة المجتمع، وأيضا أمام السلطة السياسية في المدينة، حيث كانت تحارب الجميع، وتقود ثورة حسب وصف أحد الشخصيات لها داخل النص؛ فإن النص الروائي أغفل بدرجة كبيرة معالجة الأسباب الحقيقة والكامنة وراء تجاهل سقراط لزوجته، وسوء معاملته لها، ما جعلها تنقلب عليه وتواصل تمردها، وتبدأ حياة جديدة -رسمتها في الماضي- بعد رحيل معلمها الفيلسوف.
حينما تطلب "زينة" منه السماح لها بمشاركة طلابه في الدروس، يرفض، ويرد معللا ذلك: "كنت أشجعك حين كنتِ طالبتي، لكن حين أصبحتِ زوجتي اختلف الأمر"؛ وهنا يظل القارئ في حيرة متسائلا: لماذا شوه الرجل تاريخه الفكري بمثل هذا الموقف الصارم؟ هل هو إيمان فكري أصيل لديه بحقارة وضع المرأة؟ أم هو مجرد شخص منافق يعمل عكس ما يقوله؟ وفي النهاية تحذر المؤلفة من خطورة الوقوع في نفس خطيئة سقراط.