فى تراث الشعر العربى، منذ ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر العباسى، كنوز وجواهر لا ينبغى للأجيال الجديدة أن تجهلها. نقدم كل يوم بيتا من عيون الشعر القديم، مصحوبا بإضاءة قليلة الكلمات، فى محاولة لتحقيق التواصل الضرورى والاستمتاع بعصير الحب والحكمة والموت.
الفارعة بنت طريف
«أيا شجرَ الخابورِ مالك مورقًا كأنك لم تجزع على ابن طريفِ»
منذ متى تشارك الطبيعة فى أحزان الإنسان وتتأثر بها؟. الأشجار لا ترى كوارث ومصائب البشر، ولا تتفاعل مع مشاعر ذلك الكائن الغرائبى غير ميسور الفهم والاستيعاب، فكيف تعاتبها الفارعة على هذا النحو المرعب المذهل من البساطة والرقة والسذاجة؛ سذاجة الموجوعين المتألمين الذين يتوهمون أن أحدا أو شيئا لن ينجو من اللوعة والمرارة جراء مصابهم؟.
من منظور الشقيقة التى يمزقها الألم، يتحتم على شجر الخابور أن يجف ويذبل وينكّس أوراقه الخضراء حدادًا، فإن لم يفعل، ولن يفعل بطبيعة الحال، تلجأ الشاعرة المأزومة إلى المفردة الاستثنائية التى تمثل المحطة الأروع والأعظم سحرا فى البيت: «كأنك». دهشة وصدمة وإسراف فى الإنكار كما يفعل المرضى النفسيون عادة، أولئك الذين يختصرون العالم المحيط بهم فى أزمة ذاتية يرتقون بها ويحلقون، فإذا هى القمة العالية التى لا تستعصى رؤيتها، فى يقينهم غير المنطقى، على البشر والحجر والشجر.
من مزيج العتاب والإنكار والاستنكار، يصل بيت الفارعة إلى ذروة غير مسبوقة فى التعبير عن فجيعة الفقد ولعنة الحسرة وصدمة الشعور الطاغى المدمر بالخواء؛ الداء الذى لا دواء له إلا بوحدة الوجود، وياله من مطلب مستحيل.