الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة لايت

مهنة من زمن فات.. عم «عويس» آخر مبيض نحاس في الفيوم

عويس محمود مبيض نحاس
"عويس محمود" مبيض نحاس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منذ زمن ليس ببعيد قبل ٢٠ عاما ماضية كان شرطا أساسيا في جهاز العروسة بقرى ريف الفيوم وجود الطقم النحاس، والذي لا يكتمل الاتفاق إلا به، وعادة ما يتكون من طشت الاستحمام وطشت غسل اليدين والأبريق وبعض الأواني كصواني الطهي وتقديم الشاي، وكلما زادت محتويات هذا الطقم، كان دليلا على المكانة الاجتماعية للعروس.

وكان الطقم النحاس عزيزًا وغاليا لدى النساء الريفيات بوجه خاص في قرى الفيوم، وكن يحتفظن به يتوارثه النسوة عن أمهاتهن، ولا يُفرطن فيه إلا إذا نزل بالمنزل ضائقة مالية شديدة، فكانت الزوجة تفكر حينها فى بيع الطقم النحاس؛ دليلا على بيع أغلى ما تمتلكه من أجل الأسرة، لأن قيمته المالية عالية وترتفع مثل الذهب مع مرور الزمن والذي يعد شئيا نفيسا لها تنازلت عنه.

ولمهنة مبيض النحاس دور كبير في هذه العصور القديمة حتى قبل ١٠ أعوام وخاصة في شارع العامود بمدينة الفيوم، وجود مهنة كانت لا غنى عنها في زمانها، فهي مهنة توارت مع مرور الزمن إلى أن اختفت تماما مع بداية القرن العشرين، بعدما بدأت تنتشر الأواني المصنعة من الألومنيوم الأخف وزنا والأرخص ثمنا والتي لا تحتاج إلي تبييض، وغيرها من الأواني المصنوعة من الاستانلس والزجاج المطلي والسيراميك و الصاج المطلي.

عند شراء الأواني النحاسية تتميز بلونها الأحمر الطوبي الداكن، ولكن مع استخدمها تتأكسد وتصبح كما كانوا يطلقون عليها «مجنزة»، أي يميل لون نحاسها الأحمر المجنزر إلى الاخضرار.

في شارع "العامود" بمدينة الفيوم أساس وعراقة مهنة تبييض النحاس، أقدم مبيض نحاس توارثها من والده وجده قبل قرن من الزمان منذ أن كان عمره ١٤ عاما.

«عويس محمود» صاحب السبعين ربيعا يجلس داخل محل متهالك وبه آثار انهيار متأثرا بزلزال ٩٢ لا يتعدى ٥ أمتار على جانب الطريق المار بمقامي سيدي علي الروبي وأبو العدايب في الأزقة الضيقة، رغم كبره إلا أنه تجده يلمّع بعض الأواني البسيطة التي لا يزال محتفظا بها منذ تسعينيات القرن الماضي، عصر الملك فاروق والعصور الفاطمية يتوارثها عن جده ووالده.

«عشقت المهنة من منذ طفولتي وهي تبييض النحاس للأواني التي أصبحت غير صالحة للطهي» هكذا عبر صاحب أقدم مهنة قبل اندثارها، قائلا: "كان الأهالي من ريف الفيوم كقرية الغرق بإطسا وقرى مركز طامية وسنورس ويوسف الصديق، يأتون إلينا بأوانيهم لتبيضها من الجزاز الأخضر وبعد الانتهاء من تبيضها يتحول لون الأواني من الأحمر الداكن إلى لون أبيض فضي يلمع ويعكس الضوء وتكون كالمرايا، وإعادتها صالحة لطهو الطعام من جديد، فكانت مهنة شاقة جدا، وكان في القرى الريفية مبيضو النحاس يمرون عليها في أيام معينة، يمرون في شوارع القرية من الصباح الباكر ينادون "أبيض النحاس" فتخرج القرويات بالأواني النحاسية التي جنزرت وتحتاج إلى تبييض، لاستعادتها لسابق عهدها واستخدامها.

وعن طرق تبييض النحاس زمان، قال كنا نقم بوضع الرمال فى الطشت، وندور بالقدم يمينا ويسارا، مرددًا بعض الأغاني والمواويل حتى تتم إزالة الجنزرة ثم توضع الأواني في نار حامية وتطلي بالقصدير وهذا الذي يعطيها اللون الفضي اللامع، ومع بداية القرن العشرين انقرضت المهنة، لا وجود لها الآن، وحل الألومنيوم والاستانلس والصاج المطلي والسيراميك وغيرها، والذي يعتبر أكثر صحة فى الاستخدام من النحاس، ومنذ ذلك الوقت بدأت مهنة "المبيض" فى الانقراض حتى اختفت تماما فى وقتنا الحالي، لتصبح مهنة من زمن فات.

"مقدرش أعيش بدون شغل اعشق مهنتي وقمت باستبدالها بصنع هلال مآذن المساجد وطشت ومصافي الكشري" هكذا اختتم عم عويس حدثه لـ"البوابة" وأضاف كما كنت الوحيد والأقدم في مهنة مبيض النحاس، أصبحت الأوحد في صناعة هلال المآذن ومحتويات محلات الكشري بأجرة زهيدة جدا لعمل فتحات بآلة حادة بالطشت والمصفاة وإصلاح أواني الطهي، ومهنتي هي من ربت ٩ من الأبناء يتعلمون في مجال تجهيز العرائس.