فى الفترة من 10 يناير 1882 وحتى 31 منه، لم يعقد مجلس النواب جلساته العادية، لانشغاله بمناقشة اللائحة الداخلية وتنقيحها بالاشتراك مع مجلس النظار، وسببت اللائحة آنذاك خلافًا بين الحكومة والنواب، وكان فيما بعد أحد أسباب حل مجلس النواب والاحتلال الذى وقع على مصر، وكان السبب الأساسى فى كل ذلك هو "حق مناقشة وتقرير مجلس النواب لميزانية الدولة من عدمه".
تسببت قضية الميزانية فى جدل كبير بين مجلس النظار ومجلس النواب، وعلى مدار 22 يومًا عقد خلالها مجلس النواب جلسات غير عادية، ولم يكن لهذه المجالس محاضر ولا يوجد لها أى أثر حسبما يقول محمد خليل صبحى فى الجزء الرابع من كتابه الحياة النيابية فى مصر.
ويقول المؤلف الذى شغل منصب رئيس قلم مجلس النواب وجدول الأعمال، إن الجلسات غير العادية كانت تتم بصفة غير رسمية، إما فى مكان اجتماع المجلس أو ديوان الرئاسة أو فى دور رئيسهم أو رئيس مجلس النظار أو أحد أعضاء المجلس، وكان محظورًا على الصحف وقتها ذكر أى تفاصيل إلا ما يرد عن المصادر الرسمية.
أزمة يناير
فى 3 يناير 1882 بدأت مناقشة مجلس النواب مع مجلس النظار اللائحة الأساسية القديمة لمجلس شورى النواب 1866، مع التعديلات التى أدخلت عليها حتى عام 1879، وبعد فرز أكثر بنود اللائحة، تم الاجتماع مرة أخرى وطبع اللائحة وتوزيع نسخها على الأعضاء، واستمرت الاجتماعات حتى يوم 8 يناير.
وفى ظهر 8 يناير قدم قنصلا فرنسا وإنجلترا اللائحة، التى وضعتها دولتاهما إلى الجناب الخديوى توفيق بسراى عابدين، وتضمن الخطاب أن حكومتى البلدين كانتا قد دعمتا الخديوى للتغلب على الصعاب فى مصر، ولكن بعد أمره باجتماع مجلس النواب فقد تهيأت الفرصة لإعادة النظر فى هذا الشأن، كما تضمن الخطاب تهديدًا للخديوى توفيق بأن تثبيت أركان حكمه على العرش إنما يأتى طبقًا لأحكام الفرمانات التى قبلتها الدولتان وأن هذا هو الضمان الوحيد لاستتباب النظام ولتقدم مصر ورفاهيتها، وأن أى مشاكل خارجية أو داخلية قد تهدد النظام القائم فى مصر، سيكون له أثره على استهداف حكومة الخديوى، وأن الدولتين ستتحدان للتغلب على ما يمكن أن يحدث.. وبعدها دعا الخديو رئيس مجلس النواب وأعضاء مجلس النظار إلى سراى عابدين للتحدث فى الأمر.
ورفع المراقبان الإنجليزى والفرنسى احتجاجًا على تخويل مجلس النواب حق تقرير الميزانية، وبدأت الخلافات تدب بين مجلسى النواب والنظار بسبب بعض بنود اللائحة الأساسية، وفى يوم الخميس 15 يناير اجتمع مجلس النواب بصفة غير رسمية وتلى عليه مشروع اللائحة الأساسية التى أقرها القومسيون فوافق عليها، وأرسل رئيس مجلس النواب إلى مجلس النظار اللائحة بصفة رسمية.
أثار التدخل الإنجليزى والفرنسى فى الشئون الداخلية المصرية غضب مجلس النواب والجيش، وحاولت الدولتان ألا يتم تخويل مجلس النواب حق تقرير الميزانية وطلبتا عن طريق القنصلين من حكومة شريف باشا ذلك، وحاول شريف باشا تأجيل مناقشة مجلس النواب للميزانية لتفويت الفرصة على البلدين، والاهتمام فقط بمناقشة اللائحة الأساسية، حيث كانت الدولتان تصران على معرفة كل ما يجرى بخصوص البند المتعلق بالميزانية، وهو ما اعتبره مجلس النواب تدخلًا سافرًا فى الشأن المصرى.
وبحسب مؤرخين فإن مجلس النواب رفض اقتراح شريف باشا بسبب إيعاذ بعض النظار بعدم الموافقة ودفعهم إلى ضرورة وضع البند الخاص بالميزانية، ما أدى فى 2 فبراير 1882 إلى تقديم شريف باشا استقالته بعد رفضه الموافقة على اللائحة الأساسية بسبب بند الميزانية، وتم اختيار محمود سامى البارودى.
اجتمع مجلس النواب بعد ذلك فى 6 فبراير من العام نفسه، وتم مناقشة اللائحة، بحضور المسيو دى بلينيير والمستر كولفين المفتشين العموميين، وعند تلاوة البند الخاص بالميزانية، اعترض المفتشان وقالا إن هذا البند لا يمكن إبداء الرأى فيه وتم تقديم مذكرة بشأنه من القنصلين، وتم الإبقاء على المادة، وبعد انصراف المفتشين طلب رئيس المجلس من الأعضاء إبداء رأيهم فى بند الميزانية، ثم اجتمع مجلس النظار وتم تعديله بالبند ليصبح أن ما كان مقررًا فى ميزانية السنة السابقة ولم يكن مخصصًا لأعمال جديدة مثل أشغال عمومية وغيرها، فينفذ مؤقتًا إلى أن يعقد المجلس الثانى بمقتضى المادة 23، كما صدق على اللائحة بما فيها بنود إيرادات ومصروفات الحكومة، وتم إرسال التعديلات إلى مجلس النواب ووافق عليها.
وردت إنجلترا وفرنسا على هذه التحركات بخطاب من المفتشين العموميين مفاده أن ما حدث تسليم بالعبث الخطير الذى يصيب نفوذ إنجلترا وفرنسا ومحاولة لإلغاء نفوذ الرقيبين، وقرب وقوع ارتباكات مالية، وأن سلطة الخديو تزعزعت بتأثير الثورة، وأن الخديو كان هو الضمانة الوحيدة لسلطة الدولتين، ولكن بعد هذه التغييرات أصبح خياليًا واجتمع مجلس النظار لعرض الخطاب للرد عليه.
حسبما يقول المؤرخ عبدالرحمن الرافعى، فى كتابه الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى، إن البارودى حاول إقناع الدوائر السياسية الأوروبية بأن القضية ليست سوى إصدار دستور وليس المساس بمصالح الدول، وأرسل مذكرة بتفاصيل الميزانية لإثبات قوله.
فى 26 مارس 1882 انفضت دورة انعقاد مجلس النواب، وظهرت بعدها الفتن فى البلاد، وأولها فى أبريل من نفس العام مؤامرة الضباط الشراكسة، حيث وصلت معلومات إلى أحمد باشا عرابى وزير الحربية آنذاك بوجود محاولات لاغتياله، وحسب الرافعى فإن هناك عدة أقوال منها إنها مؤامرة حقيقية وأخرى أنها خيالية، منوهًا بأنه مهما كانت الأقوال إلا أن العداوة بين العرابيين والشراكسة كانت موجودة.
وبعد الحكم على الضباط بالنفى المؤيد إلى أقاصى السودان، تم عرض الحكم على الخديوي الذى رأى أنه قاس وامتنع عن إقراره وأصر على تعديله، ووقع خلاف بينه وبين الحكومة، واستدعى قناصل الدول، الأمر الذى زاد حدة الخلاف بينه وبين الحكومة، وفى 10 مايو دعت الحكومة إلى ضرورة انعقاد مجلس النواب للنظر فى هذا الخلاف، وهو ما علق عليه المسيو سنكفكس معتمد فرنسا قائلًا: "الخلاصة أننا بإزاء حكومة ثورية وأن خلع الخديو أصبح أمرًا محتومًا".
ولما رفض الخديو دعوة مجلس النواب للانعقاد، دعت الحكومة عن طريق المديرين، وانعقد المجلس رغم عدم شرعية الانعقاد طبقًا لنص المادة 9 من اللائحة التى تؤكد أن المجلس يجتمع بدعوة الخديوي، واعترض بعض النواب على الاجتماع وطالب البعض بحل الخلاف بشكل ودى مع الخديوى وهو ما تم فى الأخير كما تم تعديل الحكم على الضباط الشراكسة، وتم نفيهم إلى الآستانة.
وبعد هذا الخلاف قررت فرنسا وإنجلترا إرسال أسطولين إلى الإسكندرية، وفى يوم الجمعة 19 مايو 1882 بدأت البوارج تصل إلى الإسكندرية، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الكفاح المصرى ضد المستعمرين، ولتصبح الميزانية هى القشة التى قسمت ظهر البعير.