تظل للحارة التى رسم ملامحها أديب نوبل الراحل خصوصيتها، وتميزها، وعالمها الخاص والغريب، ويبقى خالداً فيها مشهد الفتوة الجالس وحوله أتباعه، وكل منهم ممسكا بنبوته، استعداداً لمعركة جديدة مع فتوة حارة مجاورة، ويجلس الحرافيش يحكون أخباره فى سهرات الغرز بينما يقرع الجميع كيزان البوظة، ليبرهن كلٌ منهم على رجولته، وغيرها من تفاصيل الحارة السحرية التى ترسخت فى ذاكرتنا.
من هؤلاء الفتوات من عاشوا من البلطجة والفساد وأقاموا سلطتهم على عرش الخوف، أسماء هؤلاء كانت الحارة ترتعد من أصحابها لمجرد المرور بجوارهم، والذين كان يتجمع الحرافيش حولهم ليهتفوا «اسم الله عليه»، ثم يأتون مع كل وافد يحمل الأمل ليهدموا من رفعوه على رءوسهم قهراً ويركلوه وهم يصيحون بالعبارة نفسها.
من أشهر هؤلاء الفتوات «الشبلي» الذى رسم محفوظ ملامحه بجدارة فى المجموعة القصصية «الشيطان يعظ». ظهر فى قصة «الرجل الثاني». والتى تحولت إلى فيلم شهير تحت عنوان «الشيطان يعظ» قام ببطولته الراحلون نور الشريف وفريد شوقى وعادل أدهم وتوفيق الدقن، فى عام ١٩٨١.
تحكى القصة عن «شطا الحجري»، الشاب الحالم دوماً، والذى يمُنّى نفسه بأن يصبح الرجل الثانى لدى المعلم «الديناري» فتوة الحارة. وكان أصغر هؤلاء الرجال وأضعفهم شأناً وأحدثهم انضماماً إلى خدمة الفتوة الكبير، وكانت المهمة الأولى هى مراقبة خطيبة المعلم أخلاقياً قبل أن يتزوجها المعلم. ولكن الفتى يسير فى طريقه على غير هدى مسلوب الإرادة، فيعشق «وداد» خطيبة الدينارى، ويقرر الهروب بها من حارته التى يحكمها الدينارى إلى حارة «العطوف» التى يحكمها فتوة آخر هو «الشبلي» الذى يُناصب الدينارى العداء، وكان يعمل خادمًا لديه من قبل، وطرده الأخير من الحارة.
الشبلى عملاق آخر فرض قوته على العطوف عن طريق مجموعة من الحثالة صار زعيمهم، فرضوا سطوتهم على المحال والبشر وجمعوا الإتاوات، فصار طريد الفتوة الدينارى هو سيد حارة العطوف الذى لا يذكر من الفتونة سوى تحصيل الإتاوة وإذلال الخلق، ولا يختلف الشبلى عن الدينارى وهو ربيبه، كلاهما يتمتع بنفس المقدار من القسوة والظلم، فكان شطا البائس كالمستغيث من الرمضاء بالنار، حيث ظهر له جانب الشبلى الذى لم يضعه فى حساباته، فهو مثال الخسيس والنذل الذى لا يؤمن من استجار به، وتعميه رغبته القديمة فى الانتقام من معلمه السابق عن مبادئ الفتوات التى خلّدها نجيب محفوظ فى رواياته مجتمعه. ولأن المرأة أعجبته، وبمنطق الفتوة الذى يرى أن الجميع يخضع لسلطته، يقرر الشبلى الانتقام من الدينارى فى خطيبته السابقة، ويغتصبها بينما يتكالب رجاله على زوجها المسكين يُشبعونه ضرباً وسخرية، ويمنعوه من الوصول إلى معلمهم الذى يغتصب زوجته فى سريره، وتعلو ضحكاته وهو يعبر عن استمتاعه بما يفعل وكأنه يرى الدينارى هو الذى يتألم وليس خادمه السابق. لكن، لم يعبأ الشبلى بالفتى الذى عاد مُنكسراً إلى أهله ورجى من معلمه السابق الدينارى العفو، وصار اغتصاب زوجته أمام ناظريه حكاية أخرى يرويها وهو يشرب البوظة فى الغرزة، واستقبل طلب الدينارى بتحديد موعد لمعركة يرد بها شرف المرأة باستهانة، وهى المعركة التى لقى فيها حتفه على يد الزوج المكلوم.