دون أدنى رغبة، شاءت الأقدار أن تطأ قدمي، لأول مرة في حياتي، المعهد القومي للأورام، الكائن بمنطقة المنيل بالقاهرة، فالأمر لم يكن لإتمام تغطية صحفية كُلفت بها، أو زيارة واجبة خاطفة لمريض عزيز، بل كانت سعيًا واجبًا وضروريًا، للبدء في رحلة علاج والدتي، بعد أن ساقت إلينا الصدفة البحتة اكتشاف إصابتها بـ«المرض البطال»، كما قُدر لها من فوق سبع سماوات.
9 أشهر أو يزيد، تردَّدت قدماي على أكبر صرح طبي لعلاج الأورام في مصر والشرق الأوسط، بمعدل 3 أيام أسبوعيًا، تارة بمفردي لإتمام الأوراق الإدارية المطلوبة، وتِئَرٌ بصحبة والدتي لتوقيع الكشوفات الطبية وإجراء التحاليل والفحوصات المتعددة، حتى صرت أحفظ عن ظهر قلب، أزقة وطرقات المعهد ذات الثلاثة مباني المتلاصقة، «العيادات الخارجية - الإداري - الحجز والعمليات»، بل وصل الأمر بي، لتمييز العاملين في المعهد بأقسامه المتعددة والمختلفة، من بين المترددين عليه. وهم كُثر.
كانت الزيارة الأولى للمعهد، هي الأصعب والأكثر حيرة ودهشة، حين تأملت وجوه المترددين من كل حدب وصوب، فأغلبها باسرة خائفة مترقبة، وقليلها ناضرة؛ لكن الأمل والرجاء هما «القشة» التي يتعلق بها كل مَنْ وطئت قدماه هذا المكان «مريضًا - مرافقًا - زائرًا»، بينما تعتصر القلوب حزنًا على متاعب وآلام بعضهم البعض، ولسان حالهم: «الحمد لله.. إحنا أحسن من غيرنا كتير».
هنا داخل أروقة المعهد القومي للأورام، الحياة ليست كالتي نعرفها جميعًا خارجه! المعاناة والآلام بالجملة لمَن يقدر على حملها؟! أجساد أنهَكها المرض، وحَطَّم أحلامَهم وضيَّع آمالَهم، وأطفأ بريق وجوههم.. هنا الداخل مريضًا متعلقًا بحبل الرحمة راجيًا الشفاء والعافية.. والخارج مُحطمًا نفسيًا ومعنويًا. «فليس من رأى كمن سمع».
البداية، لم نكن سنُقبل على المعهد القومي للأورام؛ لجهلنا بدوره الفعال في علاج مصابي الأورام، لولا نصيحة أحد أطباء معامل التحاليل الطبية، بموطن نشأتي بشبين القناطر - القليوبية، بضرورة وسرعة التوجه للمعهد؛ مُرشحًا طبيبًا يدعى سيد شاكر، بقسم أورام الجهاز الهضمي، لإجراء الكشف واتخاذ ما يلزم طبيًا.
لم يكن لدينا أدنى سابق معرفة بالدكتور سيد شاكر، ولكن اللقاء الأول جمعنا به، في غرفة 4 بقسم الجهاز الهضمي، لتبدأ رحلة العلاج خطوة تلو الأخرى، مع «الطبيب الملائكي»؛ صاحب الوجه البشوش والخلق الرفيع؛ ورغم أن «شاكر» لا يعرف حتى الآن، أن «ابن المريضة» يعمل محررًا صحفيًا؛ إلا أنه كان خلوقًا يُضرب به المثل في الأدب والمهنية والترفع؛ فالطبيب الشاب الذي لم يتجاوز العقد الرابع، ظهر مُتمكنًا مُلتزمًا مُحبًّا لمهنته التي أدى يمينها فور تخرجه. «مُراقبا لله في عمله باذلًا وساعيًا في إنقاذ أرواح المرضى من الهلاك والمرض والألم والقلق».
واظبنا على البروتوكولات العلاجية المقررة للحالة المرضية لوالدتي، طيلة الأشهر الماضية، ورغم انتقالها من قسم الجهاز الهضمي، بعد احتجازها وإجرائها منظارًا طبيًا، لقسم النساء للبدء في إجراءات تجهيز جراحة استئصال «الورم»؛ وانتقال رحلة علاج الحالة لطبيب آخر؛ إلا «الطبيب الملائكي»؛ ظل مُتابعًا جيدًا ومستشارًا طبيًا لا يكل ولا يمل، من كثرة الأسئلة والاستفسارات الحائرة، دون انقطاع.
ولا يُمكنني، إغفال دور العاملين كافة في المعهد القومي للأورام، بداية من «المسؤولين - الأطباء - الممرضين- الإداريين - الفنيين - مسؤولي النظافة - الأمن»، حين تراقبهم تجدهم أشبه بـ«خلية النحل» يعرف كُل منهم دوره المنوط به، رافضين التكاسل والتخاذل أملًا في إرضاء الله، وسعيًا في رفع كاهل المعاناة، ورسم الابتسامة على الوجوه البائسة الحائرة، بعد أن ضيّق عليهم المرض الأرض بما رحبت.
فكلنا مدينون لهؤلاء العاملين بكل كَدٍّ وحرصٍ دون كلَل.. وفي الختام: سلامًا موصولًا كاملًا مُكملًا لهؤلاء المحاربين البواسل في معارك وميادين السرطان. وللقصة بقية، بشأن «جنود الظل» في حرب ضروس «المرض البطال».