كشفت تصريحات سعادة الشامي، نائب رئيس الحكومة اللبنانية، الاثنين الماضي، بإعلان إفلاس لبنان، عن عمق الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي تعيشها البلاد، برغم صدور تصريحات أخرى تنفي كلام "الشامي"، وإفلاس الدولة يعني فشل الحكومة في سداد مدفوعات أقساط الدين والفائدة عند استحقاقها، وقد يكون الفشل في سداد الديون المستحقة للدائنين مصحوبًا بإعلان رسمي من الحكومة بأنها لن تسدد الديون المستحقة، أو قد يحدث أحيانًا بدون أي إعلان رسمي.
وسبق أن أعلنت دول إفلاسها لعدم قدرتها على الوفاء بالتزامات ديونها الخارجية، سواء فائدة أو أقساط دين، وهناك دول أفلست أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، مثل الأرجنتين، التي عادت للاقتصاد العالمي بعد ذلك.
وخلال أزمة جائحة فيروس كورونا أعلنت البرازيل إفلاسها، عندما قال الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو: "البرازيل مفلسة، ليس هناك ما يمكنني القيام به، السبب فيروس كورونا الذي غذاه الإعلام".
وأكد الرئيس البرازيلي وقتها أن الانهيار الاقتصادي للبلاد مرتبط بالقيود التي فرضها الحكام للحد من انتشار الفيروس.
ولبنان ليست الدول الأولى التي تتعرض للإفلاس أو تكون على وشك حدوثه، فالبيانات الاقتصادية، تشير إلى أن نحو نصف دول القارة الأوروبية، و40% من دول أفريقيا، و30% من دول آسيا أعلنت خلال القرنين السابقين إفلاسها.
بل أن الولايات المتحدة، وألمانيا، واليابان، والمملكة المتحدة البريطانية، والصين كانت أبرز الدول التي أعلنت إفلاسها وعجزها عن سداد ديونها الداخلية أو الخارجية خلال القرنين الماضيين، فقد عانت ألمانيا من الإفلاس 8 مرات خلال أكثر من مائتي عام وهي تتصدر الدول الكبرى التي تعرضت للإفلاس، تلتها الولايات المتحدة الأمريكية بـ5 مرات، والصين وبريطانيا بـ4 مرات، واليابان مرتين. وتصدرت الإكوادور، دول العالم الأكثر وقوعا في الإفلاس، التي أعلنت إفلاسها بمعدل 10 مرات، وبعدها تأتي البرازيل والمكسيك، وأوروجواي، وتشيلي، وكوستاريكا، وإسبانيا، وروسيا، بإعلان إفلاسها 9 مرات خلال القرنين الماضيين، وقبل أقل من 24 عاما، وتحديدًا في 17 أغسطس في العام 1998، أعلنت روسيا إفلاسها، بعد عجزها عن سداد الديون الخارجية المتراكمة جراء إصدارات سندات حكومية قصيرة الأجل، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في 25 ديسمبر 1991، وفي عام 2001 أعلن الرئيس الأرجنتيني أدولفو رودريجز، التوقف عن سداد الديون الأجنبية الهائلة المترتبة على بلاده، وذلك بعد كساد أربع سنوات، وبلوغ الديون 132 مليار دولار، لتعلن الأرجنتين وقتها إفلاسها.
أسباب الإفلاس
وحدد صندوق النقد الدولي أسباب الإفلاس، ومن بينها تغيير الحكومة أو النظام الحاكم، فعندما يحدث تغيير في النظام، قد تشكك الحكومة الجديدة في شرعية الديون السابقة التي أخذتها الحكومة السابقة وتوقف سداد الديون الحالية.
ومن أسباب إعلان إفلاس الدول نقص السيولة، حيث يكون البلد في حالة تخلف عن السداد بسبب نقص السيولة، وعندما يكون البنك المركزي غير قادر مؤقتًا على الوفاء بمدفوعات أقساط الدين والفائدة لأنه لا يمكنه تسييل قاعدة أصوله بسرعة.
ومن أسباب إفلاس الدول أيضًا، الإعسار، وهو حالة تكون فيها الدولة غير قادرة على الوفاء بالتزامات ديونها، وتواجه تخلفًا عن السداد، وعندها تعلن دولة ما إفلاسها لأسباب مختلفة، بما في ذلك الزيادات الحادة في الدين العام، والاضطراب من تدابير التقشف المتخذة لسداد الديون، وزيادة البطالة، وزيادة اللوائح الحكومية في الأسواق المالية.
وفي حالات الإفلاس يتدخل صندوق النقد الدولي بشكل مباشر في إعادة هيكلة الديون السيادية، لضمان أن الأموال ستكون متوافرة لسداد الجزء المتبقي من الدين السيادي، وغالبا ما يعطي قروضه مشروطة بمعايير تقشف في البلاد، مثل زيادة الضرائب أو تخفيض الوظائف والخدمات في القطاع العام، واتفاقية إنقاذ اليونان مايو 2010، من أهم الاتفاقيات في السنوات الأخيرة، لإنقاذ دولة مفلسة، بعدما تعرضت لأزمة كبيرة وكلفتها إجراءات صعبة للعودة مرة أخرى إلى الاقتصاد العالمي.
تصريحات متضاربة في لبنان
وكان سعادة الشامي، نائب رئيس الحكومة اللبنانية، قد أعلن "إفلاس الدولة ومصرف لبنان المركزي".
وقال نائب رئيس الحكومة اللبنانية، إنه سيجري توزيع الخسائر على الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، رافضا الإعلان عن نسبة مئوية محددة.
وأوضح: للآسف الدولة مفلسة وكذلك مصرف لبنان، ونريد أن نخرج بنتيجة، والخسارة وقعت بسبب سياسات لعقود، ولو لم نفعل شيئا ستكون الخسارة أكبر بكثير.
فيما قال رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، في بيان، إن ما تم تداوله حول إفلاس المصرف المركزي غير صحيح، فبالرغم من الخسائر التي أصابت القطاع المالي في لبنان، والتي هي قيد المعالجة في خطة التعافي التي يتم إعدادها حاليًا من قبل الحكومة اللبنانية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، لا يزال مصرف لبنان يمارس دوره الموكل إليه بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف وسوف يستمر بذلك.
وأعلن رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، بعد ساعات قليلة من تصريح سعادة الشامي، أن ما قاله الأخير حول إفلاس لبنان تم اجتزاؤها، وأكد أن الشامي قصد السيولة المالية وليست الملاءة.
ويعقد وفد من صندوق النقد اجتماعات في لبنان مع المسئولين للتوصل إلى اتفاق أولي بشأن برنامج مساعدات في خضم أزمة اقتصادية غير مسبوقة، كما سبق أن وضع خريطة طريق للبنان الذي تخلف عن سداد ديونه السيادية في عام 2020 لأول مرة في تاريخه.
ودعا صندوق النقد إلى إجراء إصلاحات مالية لضمان القدرة على تحمل عبء الديون، وإعادة بناء القطاع المالي، وإصلاح المؤسسات العامة، ومكافحة الفساد بحزم، وحذر من أنه لن يقدم دعمًا ماليًا إلا إذا وافقت الحكومة اللبنانية على تنفيذ إصلاحات طموحة ضرورية لإخراج البلاد من الركود الاقتصادي الذي غرقت فيه.
إخفاقات مالية
ويرى الدكتور محمد الماوي، خبير اقتصادي، أن إعلان البنك المركزي اللبناني إفلاسه يعني أنه أصبح لا يملك مقدرة مالية على سداد أموال وديون العملاء، سواء كانت ودائع أو فوائد أو استثمارات وغيرها، وموضحا أن ذلك جاء بسبب إخفاقات كثيرة في إدارة القطاعين المالي والبنكي في لبنان، حيث كان هناك تخبط كبير في إدارة القطاع المصرفي، جعل هناك نفورًا كبيرًا من الاستثمار داخل الدولة.
وأشار إلى أن المستثمرين الأجانب رأوا أن هناك تخبطًا وعدم استقرار في القطاع المصرفي اللبناني، وهو ما تسبب في قلة الاستثمارات الأجنبية في لبنان، وكذلك انخفاض كبير في العملة الأجنبية التي تمثل عمودا أساسيا في اقتصاديات الدول.
وأوضح الماوي، أن هناك العديد من الطرق التي سيلجأ لها لبنان لسداد الديون منها عقود التحوط، كذلك سيلجأ إلى البنك الدولي وطرح سندات لسد العجز في الميزان المالي للدولة، وأن البورصة لها دور كبير وفاعل في عدم الوصول إلى هذه المراحل لأنها تمثل أفضل مجال في جذب الاستثمارات الأجنبية خلال تداول الأسهم والشركات.
عدم الاستقرار السياسي
وأكد أسامة زرعي، خبير اقتصادى، أن الاقتصاد اللبناني في وضع سيئ جدا، خاصةً في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي الذي يؤثر بلا شك على الاقتصاد بشكل مباشر، حيث إن لبنان يعاني على أرض الواقع من نقص في كثير من السلع وارتفاع معدلات البطالة حيث وصلت وفقًا لإحصائيات رسمية إلى 34% تقريبًا عام 2020 وهي نسبة كارثية وخصوصًا أن هناك تقديرات تتحدث عن أن نسبة البطالة الحقيقية تخطت 50%.
وأوضح، أن نسب الفقر متعددة الأبعاد وفقًا لتقديرات دولية بلغت 82% من إجمالي عدد السكان في عام 2021، كما أن التضخم وصل إلى نسب غير مسبوقة وصلت إلي 138% هذا إلي جانب رفض في قطاعات واسعة وإن كان بشكل غير رسمي للعملة الوطنية، كل هذه المؤشرات أدت بشكل كبير إلى إعلان إفلاس لبنان وهو ما يعني عدم قدرة الدولة على الوفاء بالالتزامات المالية لها.
وقال زرعي: هناك تأثير على المستوي الشخصي حيث يمكن القول إن الحكومة قد تتحمل بعض الخسائر ولكن يتحمل المواطن جزءًا من هذه الخسائر بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، الشكل المباشر حيث هناك بالفعل إجراءات وقيود بغرض تقليص سحب الودائع والمدخرات في البنوك الوطنية، بالإضافة إلى الحديث عن إجراءات لتحويل بعض أموال المودعين في البنوك من الدولار إلى العملة الوطنية والتي تعاني من انهيار كبير في الأساس.
تراجع في العملة
وأكد جون لوكا، خبير اقتصادي، أن الاقتصاد اللبناني شهد تراجعًا كبيرًا في قيمة العملة المحلية مما ترتب عليه تراجع كل المؤشرات الاقتصادية، التي ليست بمعزل عن الأحداث السياسية والأمنية والصحية التي تشهدها لبنان والتي ساهمت بصورة كبيرة فيما يعيشه لبنان الآن من حالة إفلاس.
وأوضح، أن لبنان يحتاج الآن إلى سياسات إنقاذ بداية من برنامج إصلاحي شامل تتراوح مدته الزمنية من خمس إلى سبع سنوات، يهدف إلى التخفيف من حدة الأزمة ومعالجة جذور المشكلة، ووضع البلاد على مسار يقوده نحو التعافي، وهو الأمر الذي لن يتحقق سريعا، مما يتطلب ضرورة تكاتف كل الدول لدعم اقتصادها في محاولة لإنقاذ عملتها وتعافيها مرة أخرى خلال تنفيذ ذلك البرنامج.
وأكد لوكا، أن خطة البرنامج ستحقق التوزان من خلال فرض تقاسم عادل للأعباء في إطار معالجة تبعات الأزمة، مع حماية الفئات الأضعف خاصة خلال الفترة الانتقالية المقبلة، لذلك لا بد من الإشارة إلى ضرورة تطبيق مجموعة من الخطوات بشكل متوازن، بحيث تبدأ بإنشاء لجنة إدارة الأزمة بالصلاحيات اللازمة لتسيير الاقتصاد من أجل صياغة البرنامج، والتفاوض حوله وتنفيذه مع الجهات الداخلية والخارجية، وتقييد حركة الأموال والتعاملات المصرفية وإدارتها بطريقة مركزية وشفافة مع ضرورة صياغة التشريعات المناسبة لإجراء ذلك.
قال الدكتور شريف الدمرداش، خبير اقتصادي، تعليقًا على هذه أزمة إفلاس لبنان، إن تركيبة لبنان الطائفية المعقدة وتبعية كل طائفة لجهة خارجية، جعل من لبنان دولة مصيرها ليس بقرار من أبنائها.
وأضاف الدمرداش، أن قرارات لبنان سواء سياسية أو اقتصادية تأتى من الخارج، والحلول ستكون خارجية عن طريق الدول التي تساند لبنان بالدعم المالي، ووفقا للأجندات السياسية للأطراف المهيمنة على الواقع اللبنانى.
قال الدكتور علي الإدريسي، خبير اقتصادي، إن إعلان الدولة إفلاسها يعني عدم قدرتها على سداد إلتزاماتها الخارجية.
وأضاف، أن سيترتب عليه انهيار في الجدارة والتصنيف الائتماني للدولة، وانهيار سعر صرف العملة، بالإضافة إلى هروب كافة الاستثمارات من الدولة سواء كانت المحلية أو الأجنبية، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة.
وأشار إلى أن لبنان الآن معرضه لأن يتحكم الدائنين بالدولة وتوجهاتها، بالإضافة إلى الاستيلاء على أصول الدولة بأبخس الأسعار لسداد مديوناتها.
قال الدكتور مصطفى بدرة، خبير اقتصادي، أن إعلان إفلاس لبنان يعنى نقصًا حادًا فى كافة السلع الغذائية والتموينية فى ظل ظروف عصيبة على المجتمع الدولى بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والتى سببت حرجًا كبيرًا للمجتمع الدولى ومؤسسات النقد الدولى، مشيرًا إلى أنه لن تتدخل أى من تلك المؤسسات فى حل هذه الأزمة العصيبة.
وأضاف بدرة، أن الدولة اللبنانية كانت تمتلك احتياطى نقدى جيد، ولكن بسبب الصراعات السياسية تراجع الاحتياطى النقدى وانكفأت الدولة على مشاكلها السياسية.
وتابع، اليونان والبرازيل وجدا من يساعدهم، لكن مشكلة لبنان مزمنة وتفاقمت مع جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية، متوقعًا أن تتفاقم الأزمة الاقتصادية فى الوقت الذى لن يجد فيه أصحاب الودائع البنكية أصول ودائعهم وإنما قد يحصلون على نسبة من أموالهم إذا ما وجدوها، ولذلك لابد من وضع خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد، وجدوله الديون، وإيجاد مصدر للتمويل.
قال الدكتور رشاد عبده، خبير اقتصادي، إن لدى لبنان مشكلة كان من الممكن يقع بها دولة مصر ولكن بتصرفات ناجحة من حكومة مصر ورئيسها تخطوا تلك الأزمة التي وقعت بها لبنان.
وتابع، أن الأزمة التي تعرضت لها الحكومة اللبنانية وشعبها الخروج السبب بها عدم وجود زراعة ولا صناعة بالبلاد، حيث أن اعتمادهم الأساسي على السياحة وتحويلات اللبنانيين المتواجدين خارجها، وعندما حدثت الأزمة قرر المواطنين الخروج للتظاهر والاعتراض لما تمر به البلاد.
وأكد عبده، أن التظاهر وعدم الاستقرار تسبب في حالة خوف سيطرت على المستثمرين وكذلك السياح، ما أدي لانقطاع السبيل الوحيد لعيش اللبنانيين، بالإضافة إلى حدوث حالات سرقة وتكسير بالبنوك ما زاد من أزمة الثقة داخل دولة لبنان.
وأضاف، أن الذي مرت به لبنان في الأشهر الماضية زاد من عدم التعامل أو خوف المستثمرين وأصحاب الأموال من التعامل معها، فعانت من عدم تحويلات اللبنانيين الذين في الخارج، والاستثمار والسياحة ما أدى لانحدار العملة التي عن طريقها تزدهر البلاد، وعلق: "عدم وجود عمله وانقطاعها خلى مابقاش فيه مصادر للدخل أو شراء البنزين والديرة انحدرت"، وبكبر الأزمة خرجت الشعوب بشكل أكبر للتظاهر واعتراضهم.
وأكد عبده، نتيجة زيادة المظاهرات يمكن أن يتسبب في قلق صندوق النقد الدولي الذي عندما يلجأ لها الحكومة اللبنانية ستقوم بوضع شروط قاسية حتى تستطيع الحصول على ضمانة عودة تلك المبالغ.
وتابع، أن ذلك سيكون على حساب المواطنين، وسيزيد من الأزمة، وبالتالى لم تخرج لبنان من أزمتها سوى بمزيد من الثقة والتحويلات والاستقرار لتنتعش الدولة في ظل تشكيك الجميع بها ما يؤدي لاستمرار المشكلة.