منذ اليوم الأول لدخول القوات الروسية الى أوكرانيا، كتبت أن ما يحدث ليس حربا، ولا حتى معركة، لكنها عملية عسكرية. وحيث مضى أكثر من شهر على تلك العملية، فمن المفيد أن نقيمها الآن ولا ننتظر حتى تنتهي.
وقد تساءل أحد السادة القراء الأعزاء، لماذا لم تسمها حربا؟ وكان ردي أن "حربا" تشنها قوة نووية عظمى كروسيا، تكون كاسحة ومدمرة ومستمرة على مدار الساعة، فإذا أضفنا التاريخ والتلاحم الأسري المشترك بين روسيا وأوكرانيا، فإن محددات وحدودا تفرض على روسيا الاقتصار على عمليات نوعية معينة لاستئصال خطر معين، وليس شن حرب مدمرة. كما أن الحجم الكبير لمشكلة اللاجئين والحجم الصغير لعدد القتلى، يدل أيضاعلى أنها ليست حربا.
وبالطبع لا يوجد فائز في جميع العناصر، ولا خاسر في جميع العناصر، لكن لكل طرف جوانب فائزة وجوانب خاسرة، وفي ضوء المساحة المتاحة للنشر، سنحاول اختصار عدد اللاعبين [وهم كُثر] وربما تشمل جميع دول العالم! ونتناول هنا نقاط الفوز فقط. حيث نقاط الخسارة ظاهرة للجميع من قتلى وجرحى وخسائر في المعدات والممتلكات والاقتصاد والسياسة وزيادة الأسعار والعقوبات وزيادة معدلات التضخم، وغير ذلك، وسنكتفي بـ 20 نقطة لكل طرف [روسيا والولايات المتحدة وأوربا وأوكرانيا] وقد تناولنا روسيا ثم أمريكا، وفي هذا الجزء الثالث نتناول أوروبا.
ثالثا: الاتحاد الأوروبي: فاز في المجالات التالية:
1 اتخاذ إجراءات متسارعة، لفرز وتصنيف جميع السلع الاستراتيجية التي تحتاجها أوروبا وعلى رأسها الغاز والبترول والمعادن وأشباه الموصلات، وجار وضع خطط استراتيجية لعدم تعرض هذه الإمدادات للأخطار السياسية والاحتكارية.
فمنذ أوروبا الاستعمارية التي جسدتها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وغيرهم، ظلت أوروبا تعتمد على المواد الخام من مستعمراتها، وبعد الاستقلال، لم يحدث تغيير في استراتيجيات أوروبا على ابتداع استراتيجيات جديدة لتقليل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها تلك الامدادات المعتمدة على الغير. وبمعنى أخر فطنت أوروبا وتأكدت من ضرورة الإسراع في الاعتماد على مصادر استيراد من دول قليلة المخاطر في العلاقات مع أوروبا، أو ابتكار وسائل جديدة معتمدة على الذات.
2 تغيير العقيدة التسليحية للعديد من الدول الأوروبية، حيث أصبحت العديد من الدول الأوربية القوية اقتصاديا مثل ألمانيا تتبنى استراتيجيات مستقبلية لتكوين جيوش قوية وتسليحها بأحدث الأسلحة وتطوير صناعات الدفاع على مستوى أوروبا كلها، وليس على مستوى دول محدودة مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. حيث اتضح أن الاعتماد على مواقف وقناعات رئيس أمريكا من مساندة أو عدم مساندة الناتو، يمثل مخاطر غير محسوبة.
3 حصول الناتو على دفعة قوية ودعم كبير، أعادت له أهميته، بعد أن كان فقد منها الكثير في عصر الرئيس ترامب.
4 تجسيد صورة تضامنية فعلية بين الدول الأوروبية، حيث أعادت الأزمة الأوكرانية أجواء الحرب العالمية الثانية، وأنه مهما بلغ الضعف النووي لأوروبا، مقارنة بروسيا وأمريكا. فإن التضامن الأوروبي والمتسم بالعنصرية والتحيز للدفاع عن أي جزء من أوروبا، أثبت أنه حقيقة واقعة.
5 في عمليات الحظر والتغييب التي مارستها أوروبا على الإعلام الروسي وعدم تمكينه من إبداء وجهة نظره، نجحت أوربا في تقليل شعبية الرئيس بوتين داخل أوربا بشكل كبير.
6 نجحت أوروبا في غزو عقول وتحويل بعض شعوب الدول المحيطة بروسيا، كي تصبح "الأمة جيشا" لمحاربة روسيا، مع وجود موجات تطوعية للحرب.
7 ابتكرت أوروبا طرق تمويل جديدة لتمويل التسليح، وذلك عن طريق تلقي التبرعات من جميع الأفراد داخل وخارج أوروبا وعدم قصره على الحكومات، وهو ما يعطي زُخما وجوا عاما وقوة معنوية للعداء لروسيا ونظامها وجيشها.
8 بدأت أوروبا في تسريع برامج الرقمنة وحماية البيانات، والتي كانت موجهة أساسا للنزاع مع الهيمنة المعلوماتية الأمريكية، لتصبح الأولوية موجهة لروسيا والصين والهند بالإضافة الى أمريكا.
9 إيلاء مستقبل العلاقات التجارية والإستثمارية مع الصين اهتماما خاصا، ووضع الدراسات المعمقة في هذا الشأن، حتى لا تكون المصالح الأوروبية المتنامية مع الصين، ضحية لأية خلافات أمريكية مفاجئة وعنيفة تجاه الصين.
10 وضع خطط واستراتيجيات وسياسات وبرامج لضمان الأمن الغذائي لدول القارة، وعدم تعرضه مستقبلا للتهديد.
11 توظيف عمليات الجهل التاريخي لأجيال كبيرة من الشباب الأوروبي عامة والأوكراني خاصة والذين تقل أعمارهم عن 40 عاما [كان عمر الواحد منهم 9 سنوات فقط عندما تفكك الاتحاد السوفيتي] وبالتالي تم تغذية عقولهم بمعلومات عدائية تنفرهم وتزيد من كرههم لروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، دون أن تكون عندهم قاعدة معلوماتية للمراجعة. وهو ما جعلهم يشوشون على العقيدة التي يتبناها الرئيس بوتين، بأن الشعبين الروسي والأوكراني شعب واحد.
12 تقوية وتعضيد الكنيسة الأرثوزكسية الأوكرانية وتعميق استقلالها عن مثيلتها الروسية. واللعب على وتر تضخيم الخلافات التاريخية بين روسيا وأوكرانيا، وطمس حقائق العوامل المشتركة.
13 تم بنجاح استغلال والدعاية والترويج للشعارات البراقة التي يرفعها النظام الأوكراني، مثل: السلام والحرية الشخصية أوروبا في توصيل رسالة والكرامة الإنسانية والتعتيم على أية خطايا أو جرائم ارتكبها هذا النظام.
14نجاح أوروبا في توصيل رسالة واضحة ومباشرة وحقيقية بأن الاعتداء على أية دولة أوروبية، ستكون له تكاليف باهضة عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
15 نجاح بعض الدول الأوربية في توصيل رسالة واضحة وعلنية الى أمريكا، بأنه في بعض القضايا المعينة ذات الأهمية الحيوية، وفي بعض التفاصيل، لا يمكن لأمريكا أن تملي شروطها على أوربا وتطلب منها تنفيذ وتبني ذات السياسات والإجراءات.
16 فطنت أوروبا بأنها لابد أن تعطي اهتماما أكبر وربما تأثيرا أشمل، لعملية انتخاب شخص الرئيس الأمريكي دون تدخل يُحسب عليها. لكن لا تقف موقف المتفرج، بعد أن اتضح مدى تباين السياسات الأمريكية وفقا لشخوص رؤسائها.
17تم استغلال مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني في الدول الأوروبية لأقصى درجة، لأجل تصوير وتوثيق نتائج العمليات العسكرية الروسية [سواء عن حق أو باطل] لتصوير بشاعة النتائج، لأجل استخدامها مستقبلا في المحاكم.
18 أصبحت سياسة الأمن الغذائي والاحتياطي التمويني، تمثل أولوية للسياسات الأوروبية، وأصبح بناء سياسات غير معرضة للمخاطر من أولويات اهتمام أوروبا.
19 كانت عملية فتح الحدود دون قيود، وتقديم المساعدات السخية من جميع الدول الأوربية للاجئين الأوكرانيين، بمثابة إعلان لمدى تضامن ووحدة شعوب الدول الأوروبية، وهو ما زاد من معدلات وعمق الانتماء لتلك القارة.
20 تأكدت أوروبا من مدى فائدة الاحتفاظ بعلاقات قوية مع بريطانيا [رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي] فلازال الإرث البريطاني التاريخي وتجذر علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع كندا واستراليا وغيرها، يعطي دعما وزخما للموقف الأوروبي من القضايا والأزمات العالمية.