منذ اليوم الأول لدخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، كتبت أن ما يحدث ليس حربا، ولا حتى معركة، لكنها عملية عسكرية. وحيث مضى أكثر من شهر على تلك العملية، فمن المفيد أن نقيمها الآن ولا ننتظر حتى تنتهي.
وقد تساءل أحد السادة القراء الأعزاء، لماذا لم تسمها حربا؟ وكان ردي أن "حربا" تشنها قوة نووية عظمى كروسيا، تكون كاسحة ومدمرة ومستمرة على مدار الساعة. فإذا أضفنا التاريخ والتلاحم الأسري المشترك بين روسيا وأوكرانيا، فإن محددات وحدودا تفرض على روسيا الاقتصار على عمليات نوعية معينة لاستئصال خطر معين، وليس شن حرب مدمرة. كما أن الحجم الكبير لمشكلة اللاجئين والحجم الصغير لعدد القتلى، يدل أيضا على أنها ليست حربا.
وبالطبع لا يوجد فائز في جميع العناصر، ولا خاسر في جميع العناصر، لكن لكل طرف جوانب فائزة وجوانب خاسرة. وفي ضوء المساحة المتاحة للنشر، سنحاول إختصار عدد اللاعبين [وهم كُثر] وربما تشمل جميع دول العالم! ونتناول هنا نقاط الفوز فقط، حيث نقاط الخسارة ظاهرة للجميع من قتلى وجرحى وخسائر في المعدات والممتلكات والاقتصاد والسياسة وزيادة الأسعار والعقوبات وزيادة معدلات التضخم، وغير ذلك، وسنكتفي بـ 20 نقطة لكل طرف [روسيا والولايات المتحدة وأوربا وأوكرانيا] وقد تناولنا في الجزء الأول روسيا، وفي هذا الجزء نتناول الولايات المتحدة.
ثانيا: الولايات المتحدة فازت في المجالات التالية:
1 تعمدت أمريكا دفع روسيا للدخول في العمليات العسكرية. حيث رفضت أمريكا أية محاولة للحلول السلمية غير المكلفة والمتواضعة التي كانت تطلبها روسيا قبل بدء العمليات العسكرية، والتي كانت مجرد ورقة تطمئن بها روسيا أن أوكرانيا لن تدخل حلف شمال الأطلنطي. وبذلك حققت أمريكا فوزا كبيرا عن طريق تكبيد الدب الروسي غريمها العسكري الرئيسي، خسائر عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة.
2 نجاح المحاولات التي بدأها ترامب، بأن تزيد أوروبا من حجم إنفاقها العسكري، حيث تم ترجمة ذلك وتنفيذه على أرض الواقع. وهذا يصب في مصلحة الإقتصاد الأمريكي على عدة جبهات منها تقليل الضغط على حجم الإنفاق الأمريكي على بند الدفاع، وإنعاش صناعة السلاح الأمريكي بصفقات كبرى مع الدول الأوروبية.
3 الحصول على معلومات ثمينة عن الجيش الروسي، الذي دخل أوكرانيا، وهي معلومات لم تكن لتتاح لأمريكا دون تلك العمليات العسكرية. وهذه المعلومات تمثل كنزا ثمينا لأمريكا، سواء في مجالات نوعية المقاتل الروسي ودرجة تدريبه ودرجة ولاءه ونوعية المعدات ودرجة كفاءتها وأدائها، وقدرة القيادة العسكرية الروسية على التخطيط وغير ذلك. مع ملاحظة أن أوكرانيا مليئة بالجواسيس وجامعي المعلومات، وربما الساعين لتجنيد بعض المقاتلين الروس.
4 تأجيج الصراع السياسي والثقافي والاجتماعي، بين معظم الدول المحيطة بروسيا، على مستوى الشعوب والحكومات وتصوير روسيا ونظامها في صورة العدو الشرس والقاتل والساعي لتحين الفرص لافتراس تلك الدول والشعوب، وإعادة أوضاع الاتحاد السوفيتي السابق. وهذا الأمر يحتاج لعقود لإصلاحه وتغيير مفهومه، حتى وإن عم السلام.
5 إرسال رسالة رعب للدول كبيرها وصغيرها، بأن العقوبات المفروضة لم تعد اقتصادية فقط كما كانت قبل عملية أوكرانيا، بل أيضا أصبحت تشمل كافة المناحي التي يمكن تخيلها أو عدم تخيلها. وعلى الدول أن تفكر ألف مرة، قبل أن تتحدى أمريكا. ومن ثم نجد كثيرا من الدول قد صوتت مع أمريكا في الجمعية العامة، رغم عدم اقتناع تلك الدول.
6 إعادة التأكيد على أن أمريكا هي الأب الروحي لأوربا وحلف الناتو، وأن الدعوات الأوروبية للاستقلال الدفاعي ما هي إلا أضغاث أحلام، وأن أوروبا باتت مقتنعة بذلك، وأن تمردها على ذلك المفهوم أيام ترامب، قد خمد لعقود مستقبلية.
7 النجاح في اختبار عملي كبير بأن نيويورك وواشنطن العاصمة، التي تضم بين جنباتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هي مدن أمريكية يتم صناعة القرارات العالمية فيها، ويتجذر فيها النفوذ الأمريكي. وأن لندن وباريس وبرلين وبكين وموسكو ليست كذلك.
8 توجيه ضربات شديدة ومؤثرة للإعلام الروسي، ومحاصرته ومنعه من أداء وظيفته وعرض وجهة نظره، إلا في أضيق الحدود. وبالتالي وجدت الدعاية الأمريكية طريقها لعرض بضاعتها في غيبة تقريبية لوجهة النظر الأخرى.
9 إجبار الدول الأوربية على وضع خطط للاستغناء عن الغاز والنفط الروسي خلال مدة زمنية قصيرة، وهو ما سيحرم روسيا من استغلال مزاياها النسبية المتفردة [حيث وجود شبكة أنابيب مجهزة جيدا تربط روسيا بالعديد من الدول الأوروبية] وهو ما يسهل عمليات النقل ويقلل التكاليف والاستغناء عن العديد من التجهيزات الهندسية لتسييل الغاز ووسائل الشحن البحري والنقل البري. وهي خسارة كبيرة للغريم الروسي.
10 إجبار ألمانيا على إعلان الرفض النهائي لخط أنابيب نورد ستريم 2 الممتد تحت مياه بحر البلطيق والذي تكلف أكثر من عشرة مليارات يورو والمملوك للشركة الحكومية الروسية جازبروم. والذي انتهى تشييده وجاهز للتشغيل لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا دون المرور بأراضي أوكرانيا وغيرها.
11 تشجيع وتسهيل عمليات ترك الأوكرانيين لبلدهم واللجوء الى الدول المجاورة، واعتماد وتخصيص مساعدات مليارية لهذا الغرض. ونشر دعايات إعلامية مصورة عن مأسي تضم أطفالا ونساء وعجائز، وخلق حالة تعاطف عالمية لتصوير أن بوتين والجيش الروسي يرتكبون عمليات إجرامية وضد الإنسانية.
12 زيادة انتعاش سوق النفط الأمريكي وزيادة أرباحه وارتفاع الطلب عليه وفتح أسواق أوروبية جديدة له.
13 التأثير على حرية القرار الصيني، وخشية الصين من الدخول في متاهة العقوبات الأمريكية. وهو ما جعل الصين كقوة اقتصادية كبرى، تظهر بمظهر الدولة التي لا تمتلك جميع عناصر القوة.
14 تغيير وتأجيل الخطط الصينية لضم تايوان لحضن الوطن الأم، والدخول في حسابات معقدة لتقدير موقف الضم.
15 الإثبات العملي لقوة قنابل إقتصادية هائلة تمتلكها أمريكا، مثل الدولار والإنترنت وشبكة التحويلات البنكية.
16 إجماع المؤسسات الأمريكية مثل البيت الأبيض والحكومة والكونجرس والجيش والحزبان الديمقراطي والجمهوري على تبني موقفا متوافقا ضد روسيا ونظامها وعملياتها العسكرية، وهي حالات نادرة الحدوث.
17 حصول أمريكا على شعبية هائلة على مستوى الشعوب الأوروبية لدعمها العسكري لتلك الدول، ولحلف الناتو. وكذلك زيارة بايدن الشخصية لنقطة مجاورة للحدود الأوكرانية، وإلقائه خطابا شعبويا أمام حشد جماهيري، حاز على تأييد كبير. مقتديا بالزيارة والخطاب الشعبي الذي ألقاه الرئيس ريجان عندما زار برلين الغربية عام 1987 وقال فيه ريجان لن نسمح بانتصار السوفييت. وهو ما قلده بايدن وقال لن نسمح بانتصار الروس.
18 نجاح الحملة الأمريكية في ادعاءاتها الإعلامية لتشويه سمعة الجيش الروسي المشترك في العمليات العسكرية في أوكرانيا وسمعة جنوده، وأنهم غير مقتنعين بالحرب، وأنهم غير مدربين جيدا وظروفهم المعيشية سيئة وخطوط إمدادهم فقيرة وغير مخططة وغير كافية. وهو ما يزيد قناعة الدول الأخرى بالتعاون في برامج التدريب والتسليح مع الجيش الأمريكي وليس الجيش الروسي.
19 النأي بالجيش الأمريكي عن الصراع المباشر، وعدم تكبيده أية خسائر بشرية.
20 فتح الباب لقبول 100 ألف لاجئ أوكراني، يتم انتقائهم بعناية من بين العلماء والباحثين والمؤهلين، وهو ما يصب في صالح القوى البشرية الأمريكية، ويجعل استمرار القوة الذاتية للحلم الأمريكي ولأرض الفرص والوفرة والثروة.