بات علينا نحن العرب سكان الشرق الأوسط اعتياد سماع أسماء المسئولين والدبلوماسيين الصينيين تمامًا كما اعتدنا لعقود سماع أسماء زعماء الغرب وصناع الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية؛ وبمرور الوقت سنستطيع نطق الأسماء الصينية بنفس السهولة التى ننطق بها الأسماء الغربية.
قبل ساعات من الاتصال الذى جمع الرئيسين الأمريكى والصينى الجمعة الماضية لبحث الأزمة الأوكرانية، نشر نائب وزير الخارجية الصينى له يوي تشنغ على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى تويتر خريطة تسخر من شكل وطبيعة النظام الدولى الحالى.
الخريطة كانت لأمريكا الشمالية وأوروبا واليابان واستراليا؛ وعلق قائلًا "هذا هو ما يقصده الغرب بمصطلح المجتمع الدولى وكأن باقى العالم غير موجود".
لقد أصبح على خبراء العلوم الاستراتيجية والسياسية الذين كانوا يحدثوننا كصحفيين انطلاقًا من ذلك المفهوم لمصطلح المجتمع الدولى أن يدخلوا مفردات جديدة -قطعًا- تتجاوز روسيا والصين لتمتد إلى دول فى الشرق الأوسط منها مصر والسعودية والإمارات.
تغريدة نائب وزير الخارجية الصينى حملت إشارة للأسلوب الذى سيتحدث به الرئيس الصينى شي جين بينغ مع نظيره الأمريكى المؤسس على قاعدة الندية المطلقة، على عكس الانطباع الذى حاول موظفو البيت الأبيض ترويجه عبر تصريحات تؤكد أن جو بايدن سيقوم بتهديد الصين بسلاح العقوبات الاقتصادية إن هى قامت بمساعدة روسيا عسكريًا.
لم يعد العالم صالحًا للقيادة عبر منظومة يحتكرها من يعتبر نفسه القطب الأوحد الذى ينفرد بقرار الحرب والسلام وتغيير الأنظمة السياسية، وفرض سياسات اقتصادية وعسكرية تضمن مصالحه على حساب الجميع.
هناك ظروف موضوعية أخرى تتجاوز المعطيات الصينية والروسية جعلت من استمرار النظام الدولى بشكله الحالى أمرًا شبه مستحيل؛ وليس من قبيل المبالغة القول بأن ما جرى فى منطقتنا العربية فى 2011 وما سمى بالربيع العربي كان أحد أهم الحلقات الرئيسة التى خلقت ضرورة إقامة نظام عالمى جديد يقوم على تعددية الأقطاب؛ سيما وأنها جاءت فى أثناء موجة ما سمى بالثورة البرتقالية فى دول شرق أوروبا التى كانت تنتمى فى الماضى لمعسكر الاتحاد السوفيتى.
الولايات المتحدة وحلفاءها فى معسكر النيتو كانوا العامل المشترك فى كل تلك الموجات، حيث جرى استخدام ما يسمى بالمجتمع المدنى لتثوير شعوب تلك المناطق عبر تمويل منظمات حقوقية محلية لتلعب أدوارًأ سياسية لصالح الأجندة الأمريكية.
ودون الخوض فى التفاصيل أرادت واشنطن إقامة نظم سياسية فى عواصم الدول التى استهدفتها بهذه الثورات لتكون عميلة لها وتقوم على خدمة مصالحها.
نجاح استراتيجية الفوضى الخلاقة التى اعتمدتها الولايات المتحدة فى العراق وسوريا واليمن وليبيا جعلت دول الخليج العربى تدرك مبكرًا أن واشنطن لم تعد الحليف الاستراتيجى الذى يمكن الثقة به لذلك سارعت إلى دعم الدولة المصرية لأن سقوطها فى دوامة الفوضى بسبب وجود نظام إخوانى متطرف سيغرق المنطقة كلها فى حالة اقتتال وحروب طائفية ومذهبية، وكانت ثورة المصريين فى الثلاثين من يونيو 2013 ودور الجيش المصرى فى دعم إرادة الشعب فى الحفاظ على الدولة الوطنية حافزًا مشجعًا لتقديم كافة أشكال الدعم السياسية والاقتصادية.
بعد استعادة الدولة فى مصر وما انتهجته من سياسات لإصلاح أوضاعها الاقتصادية من ناحية وللحفاظ على مقتضيات أمنها القومى فى مجال نفوذها الحيوى من الخليج العربى شرقًا إلى المغرب العربى، والتئام ما يمكن تسميته برؤية عربية مشتركة لطبيعة التحديات التى تواجهها عموم المنطقة تبدلت النظرة للمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة باعتبارها المالك الوحيد لـ 99% من أوراق اللعبة بحسب تعبير الرئيس الراحل أنور السادات.
وقد عزز هذه النظرة تخبط السياسات الأمريكية فى التعامل مع مستجدات المنطقة بعد يونيو 2013 من إدارة أوباما مرورًا بترامب وصولًا لبايدن.
فى الجانب الآخر من العالم انخرطت الولايات المتحدة فى صراع اقتصادى وسباق تسلح ومنافسة على النفوذ مع العملاق الصينى؛ ولأنها تدرك أنه لا وقت كاف لوقف تمدد النفوذ الصينى ونموه الاقتصادى والعسكرى، فارتكبت ما أعتبره خطيئة استراتيجية بتسريع وتيرة الصراع نحو المواجهة المباشرة عندما أقبلت على تشجيع حكومة أوكرانية العميلة لها على استفزاز الدب الروسى.
ربما اعتقدت واشنطن أنها ستكسب بعض الوقت إذا هى نجحت فى جر موسكو إلى حرب استنزاف طويلة بعض الشئ داخل المدن الأوكرانية؛ مع توقع موقف صينى متراجع خوفًا على مصالحها الاقتصادية مع أكبر سوق مستهلك لمنتجاتها توفره أوروبا وأمريكا ذاتها.
على ما يبدو أن الحسابات الأمريكية قد أخطأت فهاهو وزير الخارجية الصينى وانغ يي يعطينا انطباعًا عن حقيقة الأجواء التى سادت المباحثات بين الرئيس الأمريكى جو بايدن ونظيره الصينى شي جين بينغ بقوله الصريح بأن حلف النيتو كان ينبغى أن يتفكك ويصبح من التاريخ بعد تفكك الاتحاد السوفيتى غير أن العكس هو ما حدث وشرع النيتو فى التمدد شرقًا وأراد استخدام أوكرانيا لمحاصرة دولة نووية عظمى.
عميد الدبلوماسية الصينى ذكّر باعتداءات النيتو فى يوغوسلافيا والعراق وليبيا وأفغانستان مؤكدًا استحالة استمرار هذا الوضع.
يؤشر هذا الموقف إلى تصعيد بكين فى مواجهة واشنطن لاسيما مع تأكيدها استمرار تنمية الشراكة الاستراتيجية مع روسيا وهو ما يعنى إدراك الصين بطلان مفعول سلاح العقوبات الاقتصادية الذى بات لا يعدو كونه حديثًا للاستهلاك لدى الرأى العام العالمى.
الموقف العربى من الأزمة الأوكرانية يتماهى تمامًا مع الموقف الصينى كما اتضح فى لقاء أمين عام جامعة الدول العربية السفير أحمد أبو الغيط مع المبعوث الصينى للشرق الأوسط وهو ترجمة للمواقف الفردية للدول العربية التى باتت تشعر بعدم الاطمئنان على مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية والأمنية والسياسية فى علاقتها مع واشنطن والعواصم الأوروبية، بسبب هيستريا العقوبات الاقتصادية ضد روسيا لاسيما وأن بعض هذه المصالح قد تضررت فعليًا نتيجة للسياسات الأمريكية المتخبطة فى المنطقة.
الحديث السعودى عن تسعير النفط باليوان الصينى يعكس مجمل الشكوك العربية فى الشريك الغربى، ويعكس أيضًا رؤية عربية إلى أن تعددية النظام الدولى بمثابة الضامن الرئيس للاستقرار السياسى والأمنى والنمو الاقتصادى؛ ويبدو أن واشنطن أدركت صعوبة موقفها فراحت تعلن موافقتها على صفقات أسلحة لعدد من الدول العربية كانت ترفضها قبل أسابيع قليلة.
آراء حرة
الأزمة الأوكرانية.. نحن على أعتاب نظام دولي جديد..!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق