الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة لايت

103 أعوام على قصف الطائرات الإنجليزية أسيوط وديروط

الثورة
الثورة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في مثل هذا اليوم 23 مارس من العام 1919 قصفت الطائرات الإنجليزية مدينتي أسيوط وديروط لمدة يومين وذلك ضمن أحداث ثورة 1919، حيث اشتعلت وانطلقت الثورة المصرية فى سنة 1919 فجأة دون إنذار، فى كل مكان مرة واحدة، فى طول البلاد وعرضها، من الإسكندرية إلى أسوان، وروع الناس من وقع المفاجأة، وتعطلت المواصلات، وتقطعت السكك الحديدية، وتوقفت الأعمال فى كل مكان، وشغل الناس بحرب الإنجليـز قبـل كل شئ.
 كان الإنجليـز يحتـلون المنطقة الواقعـة حـول خزان أسيوط، ويعسكرون فى المنتـزه وفى المدرسـة الثـانوية، ونشبت المعركة بين المصريين والإنجليـز، وبدأت بإطلاق النيران على معسكراتهم الواقعة فى غرب الخزان، وتحصن الإنجليـز فى المدرسة الثانوية، ووضعوا خير قواتهم عند الخزان، وتحصـنوا وراء الأحجـار المعـدة لتدعيم الخزان، وكان الأهالى يرابطون فى قرية "الوليدية" المجاورة للمدرسة والقريبة من الخزان، على مبعدة أمتـار منهم فقط، وأخذوا يصلونهم بالنار، ويطلقون بمقدار، لانهم يعرفون أن المعركة ستطول، وهم فى حاجة إلى الذخيرة والرجال المدربين على القتال، وأرسلت اليها القرى المجاورة أحسن رجالها الشجعان، وأتى اليها الرجال من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبـيرة.
وحارب الرجال كما يحارب الثوار من غير نظام ولا قيادة، فكانوا يحاربون بفراسة الرجال الشجعان، وفعلوا كل ما يفعله القائد المدرب فى الحرب، وما يفعله المحاربون فى الميدان، فحاصروا المعسكر من الشمال والجنوب، ورابطوا فى النهر، وقطعوا عنهم المدد عن طريق السكة الحديد ومن كل طريق، وفكروا فى قطع الخط الحديدى عند قرية "منقباد"، وفى قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل، اجتمع أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى، مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم، وأكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون فى الجبل الشرقى، وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء، ويعصبون رؤوسهم ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش.
 ونحرت الذبائح، وقـدم الطعـام، وتعشـوا على الطـبالي وكانوا يتحدثون فى حماسة بالغة وهم يلتهمون الطعام، وعيونهم تبرق، ويمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم، وعندما وقف واحد من الطلاب يتحدث عن الاستعمار والبـلاء الأسود النازل بالبلاد، كانوا ينصتون فى سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب، ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة، وفى أخريات الليل والظلام شاملا، والسكون رهيبا، عبر الرجال النيل إلى الضفة الغربية، وهناك انقسموا إلى فرق صغيرة، اتجه بعضها إلى الخزان، وذهبت فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى "منقباد" لتقطع الشريط الحديدى، وسارت حذاء النيل على الرمال الناعمة.
 ويقول الراوى وهو يصـف تلك المهـمة فى قصـة "حدث ذات ليلة": "ثم انحرفنـا عن الطريق السوى، وسرناوسط الحقول، وكانت السماء كابية، والريح تزار فى أخصاص "البوص" التى مررنا بها، ولما صعدنا المنحدر، واقتربنا من الخط الحديدى، بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح فى هذا السكون العميق وتقدمنا فى قلب الليل، ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا فى الظلام، وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر فى جنبات الوادى المقفر، وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذى يتخلل القضبان، شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقى، وانتابتنى الرهبة، وأخذت المكان بنظرة خاطفة، وأعطيت الإشارة للرجال.
 وبدأت المعاول تعمل وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين، وتفرقنا فى قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة، ولما شعر الإنجليز بأن الثورة انتقلت من أسيوط إلى الشـرق وأن العرب تحركوا من هناك لقتالهم، نصبوا المدافع الرشاشة على الخزان، وفتحوا الطبلية، حتى يقطعوا الصلة بين الشرق والغرب ويمنعوا المدد، ولما رأى الثوار من عرب الشرق، الذين يقاتلون منذ بدأت المعركة فى قرية "الوليدية" ( تقع فى الناحية الغربية من النيل) المدافع الرشاشة منصوبة على الخزان، والكمين الذى أعده الإنجليز ليحصدوا به كل من اقترب من الهوية.
إجتمع قواد المعركة، وقرروا ان تهاجم فرقة من خيـار الرجـال المسـلحين بأحدث أنواع الأسلحة الموقع من كل الجهات، ويتسلل قبل الهجوم خمسة من الفدائيين إلى الموقع من الخلف ويتسلقون السـور فى غلـس الليل، وقبل الفجر يعطون إشارة الهجوم باطلاق أول طلقة وبدأ القتال واشتد، ولكن لم يسكت مدفع واحد من المدافـع الثلاثة، كانت محصنة تحصينا منيعا بالأحجار وأكياس الرمل، وبعيدة عن مرمى المقاتلين من الثوار، وسقط سبعة من الرجال المهاجمين، وحوصـر الذين تسـللوا من الخلف، وساءت الأحوال عندما علم المصريون أن رشوان، قائد من قواد الثوار، قتل فى المعركة وتوقف الهجوم فى الغروب.
وغير الثوار من طريقة الهجـوم فتسللت فرقة فى الليـل من بين الحجـارة وأصبحت قريبة من الموقع وتقدمت أخرى نحو الهويس وكمن الآخرون فوق النخيل على بعد أمتار منهم، وطوقـت داورية إنجـليزية الرجـال الذين تقـدموا الصـفوف وحاصرتهم، وأطلقت النـيران من فوق النخيـل على الداورية تحصد رجالها، ثم تتجه إلى المدافع المنصوبة على الخزان فتسكتها، وكـانوا على وشك إبادتهم جميعا، ورفع العـلم الأبيض على الهويس، وأدير الكوبرى، ومرت الجمـوع تقرع الطبـول، وتقدم الثوار بالمراكب وبالبنادق والحراب من البر الشرقى وبالخيول المسرجة وعليها الفرسان تجرى فى اتجاه الريح.
وفى أثناء انتصارهم الباهر، ظهرت فى اليـوم الخامس طيارة فى السماء قادمة من القاهرة ولم يكن لهم بها عهد ولا يعرفون عنها شيئا وأخـذت تغير فوق رؤوسهم وتلـقى القنـابل على غـير هـدف فتغير الموقـف وذعر النـاس وحمـلوا بنادقـهم فى أيـديهم وتفرقوا وطاروا على وجوههم فى الأرض وأخذت المراكـب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم، وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجـوه، وكانوا وهم الشبان الأشـداء يغلون غيـظا ولا يدرون علة هزيمتهم، لقد بدأوا المعركة كجنود من الطراز الأول، وعندما كفوا عن النار، خيل إليهم أنهم قد انتهوا، ولكنهم لم يلقوا السلاح.
 وخمدت الثورة فى القاهرة، وأرسـل الإنجليز فرقـة جديـدة إلى أسيوط ، رابطت عند الخزان فى حديقة كبيرة هناك، وانطلقوا يفتشون القرى فى الشرق باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة، وكانوا يخرجون من معسكراتهم فى الليل سكارى ويشتبكون فى عراك مع الأهالى، وفى الطريق المنحـدر إلى النيـل ومنـه تنـزل الفـلاحات لملء جرارهن، عابث بعض الجنود النساء الخارجات من المـاء، وطـارت النسـوة مذعـورات وتركن الجـرار تسقط وتتهـشم، وأمسـك واحـدا منـهم بواحـدة من يدهـا وهـم بتقبـيلها وهى تصـرخ وتستغيث.
وتجمع الأهالى واشتبكوا فى عراك دموي مع الإنجليز وأخرج أحد الجنود مسدسا وأخذ يطلق النار كالمجنون وكان الأهالى عزلا من السلاح وجاءت طلقة أصابت الجندى وسقط وأطلق الإنجليز النار فى كل اتجاه وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحده، وأخذ الظلام يشتد، وخيم سكون القبور على كل شىء".