باتت مقولة "الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب"، “ أكلاشيه” يتردد كلما قامت هناك حرب، ولكننا لا نرى اليوم أحدا يبكي هذه الضحية، ولا أحد يبحث عنها أو يحاول معرفة مصيرها.
وإن كان الظن أن مقتل الحقيقة هو ما يحدث في البلدان التي تحكمها سلطات استبدادية فقط، فما علينا إلا متابعة ما يجري اليوم في أوروبا، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أو بالأحرى منذ التأهب واحتمالية اندلاع الحرب، أخذت الأنباء تتضارب حول الأمر من الجهات المعنية، فالكل يذكر التصريح الأمريكي، والذي استدل على معلومات موثوقة، بأن روسيا تنوي غزو أوكرانيا، وستقوم بذلك في السادس عشر من فبراير، وبالتحديد في الساعة الثانية بعد منتصف الليل! وعندما لم تنفذ روسيا غزوها في هذا التاريخ، طرحت الولايات المتحدة بأن الغزو تأجل ليوم العشرين من الشهر نفسه، وصحى العالم في هذا اليوم واكتشف أن الغزو لم يحدث! هذا من الجانب الغربي، أما من الجانب الروسي، فالجميع يتذكر أن الروس باتوا يبررون تحشيد قواتهم على الحدود الأوكرانية بأنه مناورات عسكرية وتمارين لا غير، حتى تم اجتياح أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير، وبينما اعتبر الغرب على هذا الاجتياح غزوا، أطلق الروس عليه "مهمة عسكرية خاصة"، ومنعوا تداول كلمة الحرب على ما يدور بينهم وبين الأوكرانيين.. أين هي الحقيقة إذن؟ لنرجع إلى الوراء قليلا في التاريخ.
إن الذين كانوا على وعي بمتابعة الأحداث العالمية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد عام 1990، يتذكرون التصعيد العسكري الذي قام به النظام العراقي على حدود دولة الكويت، حيث أخذ الديكتاتور العراقي صدام حسين يهدد باحتلال الكويت، مدعيا بأن الكويت لم تكن يوما بلدا مستقلا وإنما هي محافظة من محافظات الدولة العراقية، يومها لم يجرؤ أحد أن يسأله، متى كانت الكويت محافظة تابعة للعراق؟ ولم يسأله أحد عن مصادره التاريخية الموثوقة التي يدعيها، ومع ذلك فقد عمل الغرب وبأسلوب محنك على دفع هذا الرئيس الغبي إلى حتفه، بل دفع العراق إلى حتفه، حيث رُسمَ وخُططَ له في الغرب، لأن الديكتاتور بالنسبة للغرب ليس إلا أداة، تستطيع القوى الغربية تعبئته أو إزالته متى تشاء، أما الشعوب وإنجازاتها وخيراتها فهي ليست إلا عقبة، أو بالأحرى منافسا جديدا في الساحة العالمية للغرب المتسلط منذ أكثر من ثلاثة قرون على مصير شعوب العالم، ولذا فإن تدمير أو على الأقل عرقلة مسيرة هذه الشعوب لا يصب إلا في صالح تطور وازدهار الغرب، وما جرى إبان الغزو الروسي لأوكرانيا لم يختلف عن ما جرى إبان غزو العراق للكويت. وإن جرى الحديث عن المصالح، فعلينا أن نذكر بان القارة الأوروبية هي أفقر القارات في العالم من حيث توفر المصادر الطبيعية فيها، وخاصة مصادر الطاقة، ولذا فإن اقتصاد وازدهار ورفاهية الغرب تعتمد بشكل أساسي على المصادر الخارجية، التي باتت تجلبها مجانا منذ أيام العبودية ثم الاستعمار ودخولا لمرحلة الامبريالية التي استفحلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فما الذي يربط المصادر الطبيعية والاستعمار والامبريالية بالحرب الدائرة في أوكرانيا؟
الوضع العالمي بعد انهيار النظام الشيوعي
بعد انهيار النظام الشيوعي ومنظومته المنطوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أصبح الغرب اللاعب الأوحد في الساحة العالمية، وأعلن مفكروه، وعلى رأسهم فوكوياما "نهاية التاريخ"، حيث انتصرت الليبرالية الغربية إلى الأبد، وسيكون الغرب وأتباعه صاحب القرار في مصير العالم.. وبالفعل، فقد شهدت تسعينيات القرن الماضي دور الغرب منفردا في تقرير مصير العالم، وعلى سبيل المثال، قرر ما يجري في الشرق الأوسط، وشهد على ذلك ردع صدام في الكويت وارجاع العراق إلى الوراء عقودا إن لم نقل قرونا، ثم فرض حصار على الشعب العراقي دام اثني عشرة عاما، كذلك فرض معاهدة اوسلو على القيادة الفلسطينية والتي، وللأسف، أذعنت إلى تلك المهانة التاريخية التي جرت الشعب الفلسطيني إلى مأساة جديدة. ثم قررت مصائر الدول المنعتقة حديثا من المنظومة الاشتراكية، ومن منها سيكون عضوا في حلف الناتو أو عضوا في الاتحاد الأوروبي، أو عضوا في الاثنين. ولعب النظام العالمي الجديد، الأحادي القطب، دورا مدمرا في الحرب الأهلية التي اندلعت بعد تفكك يوغوسلافيا، كذلك وسع الناتو تواجده في إنشاء قواعد عسكرية في اكثر من 150 دولة في العالم، خاصة في منطقتي الخليج والشرق الأقصى. ولم يكتف الغرب بذلك، بل نقض، تحت ما يسمى بمشروع كلينتون، ما اتفق عليه مع الاتحاد السوفيتي قبل انهياره، والذي اشترط عدم توسع الناتو إلى "بوصة واحدة" إلى شرق الحدود الألمانية، الأمر الذي دعى الروس لإنشاء معاهدة امن مع جاراتها من دول الجوار وآسيا الوسطى، إلا أن زحف الناتو لم يتوقف، واستمر حتى وصل بالفعل إلى الحدود الروسية بعد انضمام دول البلطيق "استونيا وليتواني ولاتفيا" إليه.
في مطلع القرن الحالي أخذت قوتان بالنمو، الأولى عسكرية والثانية اقتصادية، تمثلتا في الاتحاد الروسي والصين على التوالي، ولكن انشغال اميركا في ما عرف "الحرب على الإرهاب"، تلك الحرب المزعومة التي استطاعت ان تُجمّع الغرب للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية على مبدأ واحد وضد خصم واحد، يمثله تنظيم القاعدة، ولكنه سرعان ما تبين أن أهداف هذه الحرب كانت ابعد بكثير من تنظيم القاعدة، وخير دليل على ذلك، ما فعله الغرب وشركاؤه في أفغانستان والعراق. في تلك المرحلة، استغلت كل من روسيا والصين هذه الأجواء لتعزيز قوتيهما العسكرية والاقتصادية، حتى تبلورت في دورهما في أحداث ما بعد الربيع العربي، روسيا في سوريا، وبعد ازمة الاقتصاد المالي التي تعرض لها الغرب في نهاية العقد الأول من هذا القرن. وهذا ما قلق منه الغرب، وانتبهت أمريكا إلى من قد يكون منافسا لها في الساحة العالمية، وبدأت حربها "الناعمة" ضد هاتين القوتين، بحجج يجيدها الغرب. تلك الحجج التي يسمح لنفسه ممارستها، ولكن يتهم الأخرين بخرق النظم العالمية إن مارسوها!
وهنا علينا التذكير بأن الاتحاد الروسي قد طلب الانضمام إلى حلف الناتو في منتصف التسعينات، عندما كان "يلتسين" رئيسا لروسيا، ورغبته في جعل الترسانة الروسية تحت قيادة الناتو. إلا ان طلبه هذا جوبه بالرفض من قبل اعضاء حلف الناتو، الغرب! ثم عرض الرئيس الحالي "بوتين" الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في منتصف العقد الأول من هذا القرن، ولكنه واجه نفس موقف الرفض الذي واجهه الرئيس الروسي السابق! وبذا، وبعد هذين الرفضين من قبل الناتو والاتحاد الأوروبي، لم يعد هناك خيارا للروس إلا أن يعززوا قوتهم العسكرية والاقتصادية، الأمر الذي كانت تتابعه الصين عن كثب، فسلكت هي الأخرى نفس الطريق الذي سلكته روسيا، حيث استغلت النمو الاقتصادي في بلادها واتساع تبادلها التجاري مع كافة دول العالم لكي تعزز قدراتها العسكرية، حتى وصلت اليوم إلى المركز الثاني أو الثالث كقوة لا يستهان بها، إضافة إلى ان الدولتين، الروسية والصينية، هما من الدول التي تمتلك الأسلحة النووية، وهما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي التابع لهيئة الأمم المتحدة. أي ان رأيهما فيما يدور في العالم بشأن الأمن والسلام يمكن أن يكون مختلفا عن الرأي الغربي، ولهما حق النقض، الفيتو، كما هو للدول الثلاث الأخرى "الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا" في هذا المجلس. فهل سيدوم بقاؤهما في هذا المجلس؟
مفاجآت الغزو الروسي لاوكرانيا
بعد ان عززت روسيا قوتها العسكرية وحققت إلى حد ما انتعاشا اقتصاديا، خاصة أنها أحد المصدرين الرئيسيين لمصادر الطاقة، الغاز والنفط، إلى أوروبا، بدأت بالضغط على الغرب، متمثلا بحلف الناتو، للابتعاد عن حدودها الجغرافية، الأمر الذي صرح به الرئيس الروسي علنا في مؤتمر الأمن العالمي في ميونخ عام 2008. وما حرب روسيا مع جورجيا إلا إحدى سمات هذا الضغط، لمنع جورجيا من الانضمام إلى حلف الناتو، بعد تجاهل حلف الناتو لمطالب روسيا، ثم جاء بعد ذلك اقتطاع شبه جزيرة القرم من اوكرانيا واخضاعها إلى النفوذ الروسي الغير مباشر عام 2014. بعد ذلك عقدت معاهدة “منسك” الأولى، والتي تم بموجبها ايقاف الحرب في شبه الجزيرة، أعقبتها معاهدة “منسك” الثانية والتي تحدد بموجب بنودها الإحدى عشر، إقامة اتحاد فيدرالي في اوكرانيا يضمن من خلاله حق الرفض للفيدرالية “دوماس” لانتماء أوكرانيا إلى أي حلف عسكري. وبذلك تستطيع روسيا أن تؤمن حدودها مع أوكرانيا من خطر تمدد الناتو لمناطق جديدة على حدودها. ولكن لسبب عدم التزام اوكرانيا بهذه المعاهدة، استمرت الاشتباكات في اقليم “دومباس” الأوكراني خلال الثمانية سنوات الماضية، بين من يطلق عليهم بالانفصاليين والجيش الأوكراني، الذي ضم في صفوفه مؤخرا فصيلا جديدا "كتائب آزوف" من القوات العسكرية التي تتخذ من النازية أيديولوجية لها. كل ذلك تم واستمر في اوكرانيا على علم من الغرب وقادته في حلف الناتو، حتى انتخاب الرئيس الحالي “زيلينسكي” في اوكرانيا عام2019. فقد وعد هذا الرئيس انه سيتباحث مع الروس وسيجد حلا للازمة المتعلقة بشأن "القرم" و“دونباس". ولكنه لم يفعل شيئا محسوسا في هذا الصدد. واستمرت الأحوال على ما كانت عليه، مناوشات في إقليم "دونباس" وادعاءات لمرجعية شبه جزيرة القرم، ان كانت اراضي روسية ام اوكرانية. اي ان المجتمع الدولي كان مرتاحا لعدم تطور الأمر، أما الغرب، وبالذات الناتو، فقد كان ينظر بعين القلق عما آلت إليه القوة العسكرية الروسية، وعما حظي به الرئيس "بوتين" من شعبية في روسيا، حيث أظهرت الاستفتاءات الاحصائية السنوية تكرارا ان الشعب الروسي يؤيد "بوتين" في سياسته اتجاه الغرب، ويرغب في ان يكون رئيسا دائما للبلاد بنسية اكبر من الـ 70%، رغم ان نفس التصويت افصح عن استياء اكثر من 70% من الحكومة الروسية. هنا أخذ الغرب ينتظر الفرصة السانحة لكي يعيد سيناريو غزو العراق للكويت، ولكي يجد الذريعة اللازمة لتدمير النمو في روسيا، وبالذات ماكنتها العسكرية، والأهم تدمير سمعة رئيسها "بوتين" لكي لا يبقى في الحكم. وقد جاءت الفرصة عندما أعلن الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” رغبة أوكرانيا بالانضمام إلى حلف الناتو وإلى الاتحاد الأوروبي! رغم أن الجميع كان يعلم ما ستتسبب به مثل هذه التصريحات. عندها وجد الاتحاد الروسي نفسه مؤهلا لتهديد أوكرانيا.
ثمة تساؤلات تطرح نفسها منذ اندلاع هذه الأزمة، وعلى الخصوص منذ أن باشرت روسيا غزوها لأوكرانيا، أولها يكمن في حسابات الروس الغير دقيقة، وكيف لحكومة مثل الحكومة الروسية، أو لديكتاتور مثل “بوتين” ان يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يعد العدة إلى احتمالات ردات فعل الدول الأوروبية ودول العالم الأخرى؟ كيف تسنى للروس اغفال الجانب الاقتصادي، الذي يتمثل في الهيمنة الأميركية على ما لا يقل عن ثلثي دول العالم، وإجبارها على تنقيذ العقوبات الاقتصادية حتى وإن لم تشأ هذه الدول، كما حدث خلال العقود الستة من الحصار على كوبا، والعقود الأربعة من الحصار على إيران؟ وماذا عن الجانب الأوكراني وموقفه في الوقوف أمام هذا الغزو؟ فهل يمكن لاوكرانيا بتعدادها الذي يزيد عن الأربعين مليون نسمة أن تقارن بالكويت؟ هل سيهرب الأوكرانيون كما فعل الشعب الكويتي المسكين أمام وحشية القوة العسكرية العراقية الغازية؟ الم تتوقع موسكو ردة فعل الغرب لمثل هذه الخطوة؟ ما يبدو للمشاهد اليوم، إن الروس أصابوا في أمر واحد فقط، وهو عدم دخول الناتو مباشرة في هذه الحرب، غير انه من الواضح الآن أن الحكومة الروسية قد وقعت في نفس الفخ الذي وقع فيه صدام حسين!
دعاة السلام الجدد
من مفاجآت الحرب، ان عدة دول طرحت وعلى غفلة نفسها وسيطا بين الطرفين، أغربها اسرائيل التي دخلت الساحة العالمية لاول مرة كطرف لحل النزاعات وإحلال السلام! كيف قُبل منها ذلك وهي التي لم تستطع أن تحقق أي سلام على الأرض التي تحتلها منذ أكثر من سبعة عقود؟ كيف لها ان تكون وسيطا سلميا وهي لم تعترف بالسلام يوما، كذلك هو الأمر بالنسبة لتركيا ولقطر، فهما دولتان تمارسان الحرب وزعزعة الأمن في الشرق الأوسط على مدى سنين طويلة، وما زالتا عنصرين فاعلين في كل الفوضى التي تعم سوريا والحرب عليها.
في الجانب الآخر بات واضحا أن الرئيس الروسي والرئيس الأوكراني ليسا دعاة للسلام، فالرئيس الروسي لا يتمتع بأية حنكة سياسية على صعيد العلاقات الخارجية، وثقافيا لم يرتق إلى مستوى يعلو على مستوى الدكتاتور العراقي، حينما بدأ بالادعاء أن أوكرانيا لم تكن يوما بلدا وأن الشعب الأوكراني هو شعب روسي… يا لمهزلة التاريخ عندما يعيد نفسه! أما في الجانب الأوكراني، نسمع تطبيل الغرب، ومعه العديد من الدول الأخرى، للرئيس الأوكراني “زيلينسكي”، حتى جعلوا منه بطلا تاريخيا! هل هي البطولة لن يدفع رئيسا شعبه إلى حرب غير عادلة ولا متوازية؟ هل هي بطولة ان يطلب رئيسا من شعبه ان يقاتل ثاني اقوى جيش عالمي، الجيش الروسي، بقنابل المولوتوف! وهو على علم، اكثر من غيره، بقوة الجيش الغازي لبلاده. كذلك ومنذ اندلاع الحرب وحتى يومنا هذا لم يتوقف هذا الرئيس عن المطالبة بتدخل الغرب في الحرب لحماية بلاده وصد الغزو الروسي، أي أنه يدعو علنا إلى حرب كارثية، يريد فيها جر العالم أجمع إلى كارثة نووية. أي ضمير إنساني هذا؟
إن كان هذا الرئيس يحرص بالفعل على جلب السلام لبلاده لما رفض الفرصة الذهبية التي عرضت عليه من قبل الروس، بجعل بلاده دولة حيادية دائمة، كما هو حال سويسرا، دولة تتمتع بكل مواصفات الرقي والازدهار دون أن تكون مضطرة لصرف معظم مواردها الاقتصادية على الماكينة الحربية والتسلح العسكري. والأهم من ذلك أن بلاده ستنعم باستقلاليتها وعدم تبعيتها لهذا التحالف أو ذاك. لو وافق على مثل هذا المشروع السلمي لكان بطلا حقيقيا، يقتدي به الأخرون من اجل عالم يعمه السلام. ولكن الرئيس “زيلينسكي” ليس داعية للسلام، بل للحرب، حيث أصدر مرسوما يمنع رجال اوكرانيا من مغادرة البلاد، اي عليهم ان يواجهوا محرقة الحرب رغم أن كل المعطيات تفيد بعدم قدرتهم على الوقوف أمام الجيش الروسي.
حسابات الحرب
إن استطعنا في الوقت الحالي، وقبل انتهاء الحرب أن نستنتج من المستفيد والخاسر في هذا الحرب، لبدى الأمر جليا، فالشعب الأوكراني سيكون الخاسر الأكبر، كما هو الحال في معظم الحروب، والأبرياء من الشعوب عليهم تحمل تبعات الحرب، من قتل ودمار وتشريد.واليوم تجاوز عدد النازحين واللاجئين الأوكرانيين العشرة مليون مواطنا! نعم، عشرة مليون، عدد هائل شهدته سوريا قبل بضعة اعوام، ولكن لم تشهده اية دولة في مثل هذا الوقت القصير الذي لا يزيد على الثلاثة أسابيع! كذلك هو الدمار الذي سيخيم على اوكرانيا لعقود قادمة رغم مراهنة رئيسها على الدعم المالي الغربي، إلا انه لا يدرك ثمن هذا الدعم. لنا ان نذكره بالدعم الذي قدمته اميركا إلى أوربا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بما عرف يومها بمشروع مارشال، برنامج الانعاش الأوروبي، والذي كلف دول أوروبا الغربية حيادها لحد اليوم، اي انه بموجب هذا المشروع فرضت الولايات المتحدة التبعية المطلقة على دول أوروبا الغربية. فهل سيكون الشعب الأوكراني مستعدا لذلك؟ كذلك نذكره بالثمن الذي دفعه، ولا يزال يدفعه الشعب العراقي عندما قدمت أمريكا “مساعدتها” لإسقاط الطاغية في العراق! أما الخاسر الثاني فهو الشعب الروسي، الذي وقع تحت طائلة من العقوبات الاقتصادية التي ستكلفه تقدمه وازدهاره لعقود طويلة، وقوته العسكرية ستضعف بالتأكيد ان طالت هذه الحرب هذه الحرب، اضافة إلى سمعة روسيا العالمية التي ستكلف البلد سنين طويلة لارجاعها على ما كانت عليه قبل الحرب. اما مركز الخاسر الثالث فسيكون من نصيب الدول الأوروبية، التي بدأت تعاني من وطأة العقوبات على روسيا وانقطاع التبادل الاقتصادي معها، الأمر الذي سيدعوها إلى وضع ثقل التعاون في هذا المجال في كفة أمريكا، التي تصدر الطاقة غير النظيفة والتي يزيد سعرها ضعفا على سعر الطاقة الروسية. أي أن الدول الأوروبية ستخسر تفوقها الاقتصادي لفترة طويلة. وهنا تتوضح لنا هوية الرابح الأكبر، وربما الوحيد، إلا وهو أمريكا، حيث إنها لم تخسر أي جندي، وقطعت منافسا اقتصاديا على اضخم سوق للطاقة في أوروبا، كذلك فرضت على أوروبا زيادة اشتراكاتها في حلف الناتو، إلى اكثر من 2% من الدخل القومي لكل أعضاء الحلف الثلاثين. وبهذا ستكون الدول الأوروبية ضعيفة نسبيا عما هي عليه قبل الحرب، أي أن أمريكا ستكون كذاك الذي اوقع بعدة طيور برمية حجر واحدة، وهنا لم يبق لها إلا المنافس الأخير، الصين! التي ربما ستكون الهدف التالي لأمريكا.
لنا أن نفرح بردة فعل معظم دول العالم ضد ما قامت به موسكو بغزوها لأوكرانيا، ولكن هل لنا أن نأمل ردة فعل كهذه ضد أي غزو تمارسه أية دولة لأخرى أضعف منها؟ أما عن “بوتين” و“زيلينسكي” فكل ما نتمناه أن يكونا في مكان في التاريخ يُذكرُ بجرائمهما.