الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

نجاح بولس يكتب: البابا شنودة والعلمانيين.. تاريخ من النزاع

نجاح بولس
نجاح بولس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تحدثنا في المقال السابق عن مسئولية البابا شنودة الثالث عن أزمات الأقباط السياسية والاجتماعية، وتحليل بعض الاتهامات التي طالته حول دوره في تكريس تلك الأزمات، من خلال الدور السياسي الذي لعبه خلال فترة رئاسته للكنيسة وخصوصاً أثناء حكم السادات، وعبر هذه المساحة نستعرض بالتحليل العلاقة بين العلمانيين ورجال الإكليروس حول مفهوم الإصلاح الكنسي، ومدى مساهمة البابا الراحل سواء في دعم دور العلمانيين داخل الكنيسة أو تقليصه.
ولتحليل هذا الدور فعلينا استعراض موقف البابا الراحل نفسه ودوره داخل الكنيسة كعلماني قبل الرهبنة وبعد انضمامه لشريحة الإكليروس، فدور العلماني نظير جيد (البابا شنودة بعد ذلك) داخل الكنيسة وخارجها كان بارزاً وفعالاً في وقت مبكر لرهبنته، بل كان سياسياً ثائراً في شبابه يطالب بالإصلاح السياسي، اقترب من مكرم عبيد وانضم للكتلة الوفدية ووصف بشاعرها المفوه ووجه هجاء لمصطفى النحاس. 
وعلى المستوى الكنسي كان لنظير جيد نشاط يقوم على أسس إصلاحية، وكان انخراطه الأول في الحقل الكنسي من خلال قيادة علمانية وليس رتبة كهنوتية، فتتلمذ على يد المصلح الشهير حبيب جرجس وآمن بمنهجه في الإصلاح، وبمباركة معلمه شارك نظير جيد مع مجموعة شبابية في تأسيس مجلة مدارس الأحد في أبريل 1947، وأعلنت المجلة عن منهجها الإصلاحي صراحة بأن الإصلاح هو هدفها الأول، وشارك نظير جيد في عددها الأول بقصيدة عن الكنيسة بعنوان "أبواب الجحيم".


وبعد رئاسة نظير جيد لمجلة مدارس الأحد خاضت معارك شهيرة مطالبة بالإصلاح الكنسي، وهاجمت طرق رسامة الكهنة والأساقفة دون النظر لمؤهلاتهم العلمية والإدارية، وتحدثت عن أهمية تعديل لائحة انتخاب البطريرك لتتفق مع التقاليد والقواعد الكنسية، وكتب نظير جيد مقالات شهيرة مهاجماً البابا يوساب الثاني بطريرك الكنيسة وقتها، وانتقد شرعية انتخابه لمنصب البابا لكونه مطراناً لإيبارشية جرجا.


وكانت أكثر الحملات ذات السمات الإصلاحية لنظير جيد حينما اتفق مع شباب مدارس الأحد على الدفع بأستاذهم العلماني حبيب جرجس للرسامة مطراناً للجيزة بعد خلو كرسى المطرانية عام (1949)، وجندت مجلة مدارس الأحد صفحاتها حينها للتأكيد على أن الكنيسة تجيز رسامة علمانى لهذا الموقع، بينما لا تسمح بانتقال أسقف من كرسيه إلى آخر.


محطة إصلاحية أخرى للبابا شنودة حينما كان أسقفاً للتعليم، حيث قام بتأسيس مجلة الكرازة ورأس تحريرها وصدر أول عدد منها في يناير 1965،  وبسبب خلاف بينه وبين البابا كيرلس السادس حول طريقة إدارة الكلية الإكليريكية، تحولت المجلة وقتها إلى منبر للهجوم على البابا كيرلس ونقده، حتى لقبها البابا كيرلس وقتها بمجلة "الجزارة" وأمر بإيقافها لفترة، إلا أن المجلة تحولت إلى صوت المقر البابوي عقب جلوس البابا شنودة على الكرسي البابوي، وتخلت نهائياً عن توجهاتها الإصلاحية.
والغريب أن الإصلاحي نظير جيد بعدما رسم بابا للكنيسة عمل على تجميد الكثير من الأدوات الإصلاحية لدى العلمانيين وكان أولها مجلة مدارس الأحد، فحينما حاولت المجلة استعادة دورها الإصلاحي في فترة التسعينيات اصطدمت بالبابا شنودة، وتم حجب بعض أعدادها من النشر بل وتم منع توزيع المجلة في الخدمة والكنائس والأنشطة الكنسية في بعض الفترات، بسبب غضب البابا شنودة من توجهاتها الإصلاحية، وخصوصاً فيما يتعلق ببعض مقالات هاجمت تزايد حالات المنع والحرومات داخل الكنيسة، وهكذا تعكس مسيرة مجلة مدارس الأحد كيف كان الإصلاحي نظير جيد وكيف كان البابا شنودة الثالث.  
ويقودنا الحديث حول الإصلاح إلى إشكالية المجلس الملّي ودور العلمانيين في الكنيسة، فلا شك أن سلطات الإكليروس توسعت في العقود الأخيرة لتشمل كل المجالات الاقتصادية والثقافية داخل الكنيسة، بل وتمددت إلى الشئون الاجتماعية للأقباط وتداخلت مع أنشطتهم وتفاعلهم مع المجتمع خارج أسوارها، ولكن هل هذا الوضع تم تكريسه بمعرفة البابا شنودة أم هو إرث قديم من فترات سابقة لحبريته؟
الحقيقة أن الصراع بين العلمانيين والإكليروس هو تاريخ طويل بدأ مع ابتكار فكرة المجلس الملّي بمعرفة بطرس باشا غالي عام 1873، وطوال قرن ونصف شملت حبرية سبعة باباوات لم تنته محاولات رجال الإكليروس لإقصاء دور المجلس الملّي من إدارة الكنيسة، حتى خلال حبرية القديس المعروف ببساطته واتضاعه البابا كيرلس السادس، استصدر قرارا من الرئيس جمال عبد الناصر بحل المجلس الملّي، إلى أن جاء البابا شنودة وأعاده مرة أخرى، وبحنكته السياسية استطاع استئناس أعضائه، من خلال إدخالهم جميعاً إلى شريحة الإكليروس بسيامتهم شمامسة برتب مختلفة، وظل المجلس خلال حبريته بلا أنياب وبمثابة إحدى أدوات رجال الإكليروس لتمديد سلطاتهم داخل الكنيسة وخارجها.
يُحسب للبابا شنودة إنهاء حالة النزاع بين المجلس الملّي ورجال الإكليروس خلال رئاسته للكنيسة، ويُحسب عليه مباركة الوضع القائم باستحواذ الإكليروس للدور الأكبر داخل الكنيسة، بل وتمدد سلطاتهم على حياة الأقباط خارجها، ولم يأخذ الخطوة اللازمة لإصلاح الوضع القائم الممتد لقرن ونصف، وسار على نهج من سبقه من الباباوات بالعمل على إقصاء أي معارضة علمانية تتعلق بالإصلاح المالي والإداري داخل الكنيسة.
وعلى كل المستويات لم يكن البابا شنودة سبباً مباشراً في إيجاد أي من أزمات الأقباط سواء السياسية أو الاجتماعية، فأغلبها وإن لم يكن جميعها مجرد إرث ثقيل حمله من فترات سابقة لرئاسته، ولكنه أيضاً وهو الإصلاحي والسياسي المحنك والمثقف والمفكر البارع لم يقم بأي إجراءات إصلاحية خلال رئاسته للكنيسة، رغم توجهاته الإصلاحية التي بدت مظاهرها في وقت مبكر من حياته، وبغض النظر عما يحسب للراحل العظيم في شئون الإدارة أو ما يحسب عليه، سيبقى البابا شنودة معلم الأجيال بتعليمه الذهبي وتراثه الزاخر بكل عوامل الرفعة والقامة والقيمة.