أصبحت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، كاشفة وفاضحة لتصرفات الدول العظمى تجاه البلدان الأخرى، حيث دخل الشرق والغرب في حرب بيانات أكدت على ارتكاب الدول الكبرى لجرائم حرب وانتهاك لسيادة الدول والقانون الدولي، وصولا لأهدافهم، ودخلت روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، في مقارنات كشف كل منهما عورات الآخر، وظهرت الحقائق دون مواربة وتأكدت الجرائم بلا أدنى شك، إلا أن الحقيقة الأكثر وضوحا هو أن "القانون الدولي" و"سيادة الدول" و"حقوق الإنسان" لا تستخدم إلا وفقا للمصالح والأهواء.
جرائم أمريكا من اليابان إلى العراق
اتكأت الخارجية الروسية والصينية في أكثر من بيان، في الرد على التصريحات الأمريكية، بتذكير العالم بتصرفات واشنطن تجاه الشعب العراقي إلى جانب مآس أخرى بينها إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي في اليابان، إبان الحرب العالمية الثانية، والحرب الفيتنامية.
ففي السادس عشر من مارس الجاري، سردت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ما اقترفه العسكريون الأمريكيون في قرية فيتنامية من فظائع قبل ٥٤ عاما، وكتبت زاخاروفا تفاصيل الواقعة التي شهدتها تلك القرية المنكوبة والتي أحرقت برمتها وقتل ١٧٣ طفلا، و١٧٨ امرأة، بينهن ١٧ كن حوامل، من إجمالي ٥٦٧ ضحية، موضحة أن الواقعة تعود إلى ١٦ مارس عام ١٩٦٨، في قرية سونج ماي الفيتنامية في مقاطعة كوانج نجاي، حيث امتدث نيران الأمريكيين ملتهمة آخر منزل وحظيرة في جريمة بشعة.
وفي نفس اليوم أصدرت وزارة الخارجية الصينية بيانا قالت فيه إن تصرفات الولايات المتحدة ضد العراق وسوريا وليبيا وكوبا وبنما وجرينادا ويوغوسلافيا وأفغانستان، جرى الاعتراف بها عالميا كأمثلة نموذجية للدول الكبيرة التي تتنمر على الدول الصغيرة.
وفي العاشرمن مارس الجاري، أصدرت الخارجية الصينية بيانا شديد اللهجة عددت فيه الجرائم الأمريكية في عدد من الدول في مقدمتها سوريا والعراق، قالت فيه "على مدار ما يقرب من عقدين من الزمن، شنت الولايات المتحدة أكثر من ٩٠ ألف غارة جوية في دول من بينها أفغانستان والعراق وسوريا، قتلت ما يصل إلى ٤٨ ألف مدني، وفيما يتعلق بغارة بطائرة بدون طيار على المدنيين في أفغانستان، قال متحدث باسم البنتاجون علنا في ديسمبر ٢٠٢١ أنه لن يواجه أي جندي أمريكي إجراءات تأديبية.
وبدأ الغزو الأمريكي للعراق رسميا في ٢٠ مارس من عام ٢٠٠٣ بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ونشر التحالف بقيادة الولايات المتحدة قوات قوامها ٢٠٠ ألف جندي، على الرغم من عدم وجود تفويض من الأمم المتحدة ومعارضة دولية واسعة.
انتهاك مبدأ سيادة الدول
على الرغم من حديث روسيا والصين عن العراق وسيادة الدول، فإن ثمة تناقض في مبدأ "السيادة" المرتبط ببغداد وكييف، حيث إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أكد في تصريحات له شهر مارس من عام ٢٠٠٣ أنه "إذا سمحنا بأن يحل قانون القوة محل القانون الدولي، حينئذ سيكون مبدأ حرمة سيادة الدول محل شك"، في إشارة إلى انتهاك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لسيادة العراق، إلا أن بوتين نفسه عاد وانتهك سيادة أوكرانيا، حيث استولى على شبه جزيرة القرم في عام ٢٠١٤.
وكانت الدكتورة هاجر قلديش عضو لجنة الاتحاد الأفريقي للقانون الدولي وأستاذة القانون الدولي في جامعة قرطاج التونسية، أوضحت أن "الأزمة الأوكرانية تسلط الضوء على الفوضى المفاهيمية التي تضع القانون الدولي في حالة من الارتباك الشديد، فلا أحد يشكك صراحة في مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، ولا مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية لكل دولة، لكن في بعض الأحيان، نرى أن المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والجيوسياسية في الوقت الحالي تسود على القانون وتجعله جسرًا لتحقيق أهداف أنانية وغير أخلاقية".
وأضافت "قلديش" في بحثها الذي كشفت عنه خلال مؤتمر "السياسة الخارجية للقوى العظمى والقانون الدولي: حالة أوكرانيا"، الذي عقد في تونس أبريل ٢٠١٦ لمناقشة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم أن "القانون الدولي يصبح تافها، وتتشكل العلاقات الدولية وتتفكك وفقا للظروف والأحداث على الساحة السياسية الدولية وبهذا المعنى، فإن الأزمة الروسية الأوكرانية، مثل الأزمات الأخرى التي اندلعت في القوقاز والشرق الأوسط وأفريقيا، تبدو علامة على التشكيك في القانون الدولي، وربما ينبغي أن نفهم في ضوء ما سبق، أن القانون الدولي يتعرض للتهديد أكثر من أي وقت مضى عندما تستغله السياسة الخارجية ويتم التقليل من شأنه وفقا لأهواء الدول".
وعلى الرغم من المقارنات التي جرت خلال الأسابيع القليلة الماضية بين الحالة العراقية والأوكرانية، إلا أن هناك اختلافا جوهريا لابد من الإشارة إليه حتى تكتمل الصورة، حيث أن أوكرانيا تشكل إحدى دوائر الأمن القومي الروسي، وحاولت مؤخرا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" العدو الأول لروسيا، وهو الأمر الذي بات يشكل تهديدا خطيرا لموسكو استدعى تحركا يحبط مساعي كييف، فيما كان الغزو الأمريكي للعراق برمته عبارة عن "كذبة كبرى" نشرها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وأعضاء إدارته ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، لإيهام العالم بتورط النظام العراقي في تطوير أسلحة الدمار الشامل، وهو ما ثبت زيفه وفقا لاعترافات قادة الغرب وعلى رأسهم كولن باول وزير خارجية بوش الابن.
هل فلاديمير بوتين مجرم حرب ؟
وفي سياق حرب التصريحات بين البيت الأبيض والكرملين، وصف بايدن نظيره الروسي بـ"مجرم حرب"، وهو الأمر الذي استدعى ردا من موسكو التي استنكرت تصريح بايدن، قائلة "لا يحق لرئيس دولة قامت بقصف دولا أخرى التصريح بمثل هذه الكلمات، لافتا إلى أنها قصفت اليابان التي كانت قد هزمت في الحرب بالقنابل الذرية".
وعن تصريح بايدن عن بوتين طرحت صحيفة "الجارديان" البريطانية سؤالا مفاده "هل فلاديمير بوتين مجرم حرب ومن يقرر؟"، واستهلت تقريرها في الإجابة عن هذا التساؤل قائلة إن "إعلان شخص ما كمجرم حرب ليس بهذه البساطة أو مجرد قول بعض الكلمات، فهناك تعريفات وعمليات محددة لتحديد من هو مجرم الحرب وكيف يجب معاقبتهم"، مضيفة أن مصطلح مجرم الحرب ينطبق على أي شخص ينتهك مجموعة من القواعد التي اعتمدها قادة العالم والمعروفة باسم قانون النزاعات المسلحة، والقواعد تحكم سلوك الدول في أوقات الحرب، وتم تعديل هذه القواعد وتوسيعها خلال القرن الماضي، مستمدة من اتفاقيات جنيف في أعقاب الحرب العالمية الثانية والبروتوكولات التي أضيفت لاحقًا.
وأوضحت الصحيفة البريطانية في تقريرها المنشور نهاية الأسبوع الماضي "الطريقة الأكثر ترجيحا التي يمكن أن يوصف بها بوتين على أنه مجرم حرب هي من خلال العقيدة القانونية المعترف بها على نطاق واسع حول مسئولية القيادة، إذا أمر القادة أو علموا أو كانوا في وضع يسمح لهم بمعرفة الجرائم ولم يفعلوا شيئا لمنعها، فيمكن تحميلهم المسئولية القانونية. ومضت الجارديان في تقريرها مستاءلة "من يمكن أن يحاكم بوتين؟"، وقالت ليس واضحا، لا تعترف روسيا باختصاص المحكمة الجنائية الدولية ولن ترسل أي مشتبه بهم إلى مقر المحكمة في لاهاي بهولندا، كما أن الولايات المتحدة لا تعترف بسلطة المحكمة، ويمكن محاكمة بوتين في بلد تختاره الأمم المتحدة أو من قبل مجموعة من الدول المعنية، لكن الحصول عليه هناك سيكون صعبًا.