ترى هل نحن في حاجة حقًا لإلزام المتقدمين لانتخابات الرئاسة بالخضوع لفحص طبي نفسي؟ لقد قضيت ردحًا من الزمان أعمل أخصائيًا نفسيًا بمصلحة الكفاية الإنتاجية بوزارة الصناعة في مجال الاختبارات النفسية لاختيار العاملين في المهن المختلفة، ولا يمكن إنجاز عملية الاختيار هذه قبل القيام بتحليل للعمل، نحدد من خلاله بأساليب علمية إحصائية دقيقة الخصائص البدنية والنفسية التي ينبغي توافرها في العامل ليحسن عمله، ولا أظن أحدًا من المتخصصين قد قام بمثل تلك العملية للتعرف بشكل دقيق على ما ينبغي توافره لدى رؤساء الجمهوريات، وفضلاً عن ذلك فإنه لا يوجد على وجه الإطلاق مقياس نفسي تتصف نتائجه بدقة مطلقة يقينية بل ثمة هامش من الخطأ المحتمل يضيق ويتسع.
ومن ناحية أخرى؛ هل من مجال لانفراد رئيس لبلادنا بقرارات تمس المصالح العليا للبلاد في ظل دستورنا الجديد الذي يقيد سلطات رئيس الجمهورية خاصة فيما يتعلق بقرارات الحرب؛ بحيث نخشى أن نتورط في كارثة نتيجة قرار فردي غير مدروس؟
ومن ناحية ثالثة؛ فإن إسناد أمر تصفية قائمة المرشحين إلى أهل الاختصاص في الطب البدني والنفسي يفتح الباب واسعًا أمام تشكيل سلطة تعلو على كافة السلطات أشبه بسلطة آيات الله أو رجال الدين في الدولة الدينية؛ وإن ارتدت عباءة علمية.
وأخيرًا ألا يتعارض ذلك مع ما يعرف باسم "قانون جولد ووتر" الذي يشير إلى واقعة شهيرة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 1964 التي كان يتنافس فيها السيناتور المحافظ باري جولدووتر عن الحزب الجمهوري في مواجهة المرشح الديمقراطي ليندون جونسون.
وللتعرف على اتجاهات باري جولدووتر المحافظة يكفي الإشارة إلى إدلائه بحديث ناقش فيه إمكانية استخدام القنابل الذرية التكتيكية في شمال فيتنام لتدمير الغابات وهدم الجسور والطرق وخطوط السكك الحديدية التي تساعدهم في جلب الإمدادات من الصين الشيوعية.. وبسبب عاصفة الانتقادات التي تلت هذا الحديث، حاول جولدووتر التراجع عن هذه الإجراءات المشددة وادعى أنه لم يقصد تأييد استخدام القنابل الذرية ولكنه فقط ينقل اقتراحًا سمعه من بعض رجال القوات المسلحة الأكفاء.
وفي خضم تلك المعركة الانتخابية التي أسفرت عن فوز جونسون فوزًا ساحقًا، خصصت مجلة FACT الأمريكية عددها الصادر في سبتمبر/ أكتوبر 1964 ملفها الرئيسي بعنوان: "لا شعور شخصية محافظ.. معالجة خاصة لعقل باري جولدووتر" وتضمن الملف مقالتين إحداهما بقلم جينزبيرج تتضمن أن جولدووتر يعاني من اضطراب نفسي خطير، ما يشكل مخاطرة كبيرة على الأمن القومي الأمريكي إذا ما تم انتخابه رئيسًا، والمقالة الثانية بقلم يوربسون بعنوان "ماذا يقول الأطباء النفسيون بشأن جولدووتر؟" وتضمن المقال نتائج استبيان تم توزيعه على 12356 طبيبًا نفسيًا حرصت المجلة على نشر قائمة بأسمائهم؛ وقد أجاب على الاستبيان 2417 طبيبًا أبدى منهم 1189 طبيبًا أنهم يرون عدم صلاحية جولدووتر لتولي منصب الرئاسة، ادعى جينزبرج في مقاله أن جولدووتر مختل نفسيًا وأن انتخابه رئيسًا للجمهورية يعرض الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر، وتعددت تشخيصات بعض الأطباء النفسيين لجولدووتر من أنه بعاني من جنون العظمة والفصام والوسوسة والنرجسية، وتم نشر ذلك في المحلة.
ومن نماذج ما نشرته المجلة من آراء: "بينما لا أرى بأسًا في أن نختار لرئاسة الجمهورية شخصًا معوقًا؛ فإنني لا يمكن أن أقبل بأن نختار شخصًا سبق أن تعرض مرتين لانهيار عصبي إلا إذا كان ذلك من قبيل العلاج بالعمل" وقال آخر "إنه يعلن أن بؤرة اهتمامه هي التحرر ولكن السؤال هو: التحرر من ماذا؟ يبدو أنه يقصد ـ لا شعوريًا ـ التحرر من سيطرة الأم"، وقد اتضح فيما بعد أن جينزبرج قد اعتمد ضمن ما اعتمد عليه على عبارة وردت في حديث صحفي أجرى مع زوجة جولدووتر أشارت فيه إلى أن زوجها قد أصيب مرتين بانهيار عصبي وهو تعبير يتوسع العامة في استخدامه.
رفع جولدووتر دعوى أمام المحاكم الأمريكية وبعد إجراءات طويلة أدانت المحكمة سلوك المجلة بتهمة التشهير وقضت بتغريم جينزبرج 75 ألف دولار، كما تضمن الحكم أن المقالتين كتبهما جينزبرج وأنه وضع اسم زميله يوربسون لكي لا يبدو أنه كتب الملف بكامله، وبالمناسبة فإن جينزبرج لم يكن من المشتغلين بعلم النفس أو الطب النفسي بل كان ناشرًا مثيرًا للجدل.
وبعد مضي حوالي ستة أعوام قامت الجمعية بصياغة فقرة في الميثاق الطبي تتعلق بالأطباء النفسيين الذين يرغبون في تناول الحالة الصحية النفسية للشخصيات العامة، وتحظر تلك المادة على المشتغلين بمهنة الطب النفسي التعليق على الحالة النفسية لأي فرد دون أن يقوم الطبيب المتخصص بنفسه بفحص حالته وبعد الحصول منه على تصريح يسمح له بمقتضاه الإفصاح عما لديه، ونظرًا لأن تلك الفقرة قد أضيفت نتيجة لما استشعرته الجمعية من حرج بشأن ما نشر من نتائج الاستبيان المتعلق بشخصية جولدووتر فقد أصبحت تلك الفقرة تعرف باسم "قانون جولدووتر".