الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

«أطفال في ساحة الحرب».. عن قرى صعيد مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

«هُنا وهناك

على منصةِ الخطيئة

تُصلبُ الطفولة دونَ رحمة»

*إحسان البصري

 

«مشهد نهاري»

«صوت الطلقات النارية في كل مكان.. زجاجٌ مُتناثر يملأُ الأرض.. سيارة محطمة صنعت منها طلقات الرصاص مِصفاة.. مشايخٌ وأطفال جعلوا من السيارة قِبلتهم وراحوا يطوفون حولها.. ورِجالٌ عشرة كان ملك الموت ينتظرهم على قارعة الطريق، طُرِحوا أرضًا على أرصفة الطرقات بعدما سترت الأكفان عوراتهم».

«لقد تعوَّدنا على هذا المشهد، لم يعد جديدًا بالنسبة لنا، الدم والسلاح بنشوفهم من يوم ميلادنا.. تعوَّدنا على حمل السلاح من أجل أن ندافع به عن أنفسنا، الطبيعي إن أي طفل صغير يسمع صوت طلقات السلاح يخاف، لكن إحنا تقريبًا لم نكن أطفالًا، كنا نسمع صوت ضرب النار نجري ندور على السلاح بتاعنا، كنا عارفين إن اللي جاي مش خير، اللي جاي دم ونار.. جدي كان كذلك، وأبي أيضًا وأنا أصبحت مثلهما، وابني سيصبح نسخة ممن قبله، لا نخشى الموت ونعلم أنه ينتظرنا على مدخل البلدة يحاوطنا من كل اتجاه».

عندما كنت صغيرًا حرص أبي على تعليمي الرماية، حملتُ السلاح قبل أن ألتحق بالمدرسة، هل تُدرك معنى أن يحمل طفلًا لا يتخطى السادسة من عُمرِه سلاحًا قبل أن يتعلم كيف يقرأ؟ هكذا تجري الأمور هنا، وعندما التحقنا بالمدرسة كنا نضحك ونلعب سويًا ونحن نعلم يقينًا أنه بعد ساعات يمكن أن نتقاتل جميعًا، ليس قتال الصبية على «الكُرة المصنوعة من الجوارب» التي كنا نلعب بها في ساحة المدرسة، لكن قتال الرجال الذين لم نبلغ أعمارهم بعد، قتال بكل أنواع السلاح التي لم نكن نقدر حتى على حملها.. أصبحنا رجالًا قبل الأوان.

 

«تختبئين خلف جدار الخوف 

يا طفلتي..

أي جنونٍ هذي الحرب؟!»

*عماد هاني ذيب

 

«مشهد ليلي»

«الساعة الخامسة مساءً، السكون يسيطر على المكان، بعد آخر ضوء للشمس لا أحد يدخل إلى أو يخرج من البلدة، هذا هو (العُرف) الذي جرى العمل به، فعند وقوع حالة قتل يُصبح كل كائن حي يتحرك بعد هذا التوقيت فريسة مُعرّضة للوقوع في براثن الصياد، الذي ينتظر على سطح المنزل أو في أعالى الجبل المُحيط بالبلدة من الجهة الشرقية».

بعد الحادث الأخير الذي وقع منذ تسعة أشهر، وتحديدًا مطلع شهر يونيو 2021، وخلَّف وراءه عشرة قتلى منهم أطفال لم تتخط أعمارهم أربع سنوات، وسبعة مصابين يصارعون من أجل الحياة، أصبح الموعد الأخير لدخول القرية أو الخروج منها هو الثانية ظهرًا، الجميع يخشى الحركة خوفًا من دفع الثمن.. لا أعلمُ أي ثمنٍ هذا الذي يتوجب على من ليس لهم ذنبٌ دفعه؟ ما السبب الذي ندفع حياتنا ضريبة في مقابله؟

كنتُ وأبناء جيلي نحلم دائمًا بأن نعيش حياة الأطفال، نلهو في شوارع القرية، نحتفل ليلة العيد حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل، ونُعِدُ ثيابنا من المساء استعدادًا له، أحلامنا لم تكن صعبة فهي أحلام أطفال، ولكن هنا في قريتي لم تكن سوى ضرب من ضروب الخيال.

 

«جاء الخميس

وطفلُ مريم غائب

عن رِفعة العلم»

*عبد الحسين الشيخ علي

 

بعد هذا الحادث باتت المدارس مهجورة.. العديد من الأهالي أجبرتهم الظروف على نقل أبنائِهم إلى مدارس خارج المنطقة، ومنهم من سلب صغارهُ حقهم في التعليم، فأصبحت جُدران المنازل هي الملاذ الآمن.. أتذكر هذا السيناريو جيدًا عندما كنتُ صغيرًا، وها أنا أُشاهد الأيام تتكرر بنفس التفاصيل المُرعِبة، التي حاولنا قدر استطاعتنا تغييرها لكن دون فائدة، فالجميع يتعامل معنا على أننا مُجرمون بالفطرة، راغبون في حمل السلاح للقتل، لكننا كنا ضحايا العادات والتقاليد والجهل والفقر والتهميش على مدار عقود طويلة.

 

«أُمي..

أمست الجُدرانُ ملاذي

بعد أن سرقت المفخخات حضنكِ الآمِنُ مِني»

*سناء السعيدي

 

منذ خمسة عشر عامًا لم يحاول أحد أن يغير خطوط المياه بالبلدة، لم يعد هناك ماء صالح للشرب في تلك المواسير التي أكلها الصدأ، لجأنا إلى «الطلمبات» التي لا نملك سواها لسد احتياجاتنا.. والآن معلمو الصفوف الابتدائية الذين يأتون من البلاد المجاورة لتعليم أولادنا تركوا مدارسهم خوفًا من دفع الثمن بدلًا منا- لا لومٌ عليهم- لو كُنت أحدهم لفعلت ذلك، هي حربٌ لا ناقةَ لهم فيها ولا جمل.. أطفال لم تتعد أعمارهم 10 سنوات وجدوا في المخدرات و«الشابو» بديلًا عن الكتب.. لا أُريد لأبنائي هذا المصير مع أنه مصيرٌ محتوم، وما يحدث يدل على ذلك.

القرية بها نحو ثماني عائلات، «الثأر» فقط هو ما يربط الجميع، في كل واقعة قتل تحدث نحاول عقد الصُلح، لكن لم تنجح أي محاولة، وبعد الحادث الشؤم تجمهر العشرات من مشايخ وشباب البلدة؛ من أجل أن تصل أصواتنا للحكومة، نريد الأمن والأمان، نريد قرية خالية من القتل والمخدرات، نسعى لحصول أبنائنا على حقهم في الحياة والتعليم والصحة والمياه والعمل.. القضية لا تتعلق بفرد أو مائة، لكن آلاف المواطنين غير القادرين على مواصلة حياتهم بالدم والنار والسلاح، لا أحد يريد أن يستيقظ يومًا ليجد الأرض مغطاة بدماء أطفاله الصغار، تواصل معنا نواب وإعلاميون لعرض مشاكلنا، لكن نعود دائمًا للنقطة صفر، هم أرادوا «الشو الإعلامي» فقط، وقد حصلوا عليه، نريد أن تتدخل الدولة لحل الخلافات من أجل أن تعود لنا الحياة.

«جريمة قتل مروعة».. «مداهمات أمنية».. «جريمة بسبب الثأر».. «ارتفاع عدد ضحايا».. إلخ، هذه هي العناوين التي ستظهر لك بمجرد كتابة اسم القرية على الإنترنت، أصبحنا فزَّاعة ومجرد مجرمين في عيون الدولة والمجتمع.. لا أعلم هل تُحِب طفلتي موطنها ونشأتها؟ أم أنها كانت تحلم ببلدةٍ تطرحُ الأزهار في أراضيها؟

 

«اعتذر لجيناتي.. وأنتِ منها

فلقد كانت مخاض حروب

فأنبتتكِ بلا طفولة»

*حسن المهدي

 

«الأرض الملعونة».. هذا هو الوصف الذي أنهى «أحمد حلمي» به حديثه عن قريته التي غادرها بحثًا عن «لقمة العيش»، لكنه عاد مُسرِعًا عندما وقعت مذبحة «أبوحزام» تلك القرية الرابضة في أحضان الجبل الشرقي بمدينة نجع حمادي بمحافظة قنا جنوب صعيد مصر، عاد محملًا بذكرياته التي حاول الهروب منها، لكنها أبت أن تتركه أينما نزل.

في يونيو الماضي استيقظ أهالي أبوحزام على أصوات الطلقات، وما هي إلا ساعات حتى تحولت القرية عن بكرةِ أبيها إلى ساحة حرب راح ضحيتها 10 قتلى و7 مصابين بينهم أطفال في ربيع عمرهم الرابع بسبب الثأر بين عائلات القرية، ثم تحولت إلى ثكنة عسكرية في محاولة لإنقاذ ما تبقى.

لم يكن هذا الحادث الذي أعاد الذكريات السيئة لـ«أحمد»، ودعاه للمطالبة بوقف بحر الدماء، الذي لم ينضب منذ سنوات، إلا واحدًا من الحوادث المتكررة التي اعتاد أهالي القرية عليها، لكن هذه المرة لم يعد الوضع كما كان في الماضي.. تخلف المدرسون عن الحضور، خاصة هؤلاء الذين من خارج القرية، وخبأ الأهالي أطفالهم وأُغلِقت مداخل القرية ومخارجها، لم يتبق في الشوارع والطرقات إلا السلاح ودِماء الذين قُتِلوا.

قرية أبوحزام تبعُد عن قريتي حوالي 20 كيلومترًا، مُنذ الصِغر كنا نستمع لحكايات القتل والثأر في هذه القرية، كنا نصدِّق بعضها ويأبي العقل أن يصدق أغلبها، ولكن أيقنتُ فيما بعد أن هذه قصة من آلاف القصص التي تحدث في الصعيد وتستحق أن تُروى.

«أبوحزام» و«حمرة دوم» و«البلابيش» و«الحجيرات».. الكثير والكثير من قرى الصعيد يمكن أن يُطلّق عليها «ممالك الدم والنار»، لا صوت يعلو فيها فوق صوت السلاح، التعليم هناك أمرٌ ثانوي تحكمه مُجريات الأمور، حق عشرات الآلاف في الحياة تقرره الظروف.. المُكتسب الوحيد الذي يوْرَّث هو «الدم».

«لعب الأطفال.. منشور على مواقع التواصل الاجتماعي.. الحدود الفاصلة بين الأراضي الزراعية، والتي لا يزيد عرضها -في بعض الأوقات- عن 20 سنتيمترًا».. من المؤسف القول إن هذه هي بعض الأسباب التي أدت إلى مقتل عشرات المواطنين على مدار سنواتٍ طِوال، وكانت سببًا في حرمان عشرات الآلاف من المواطنين من حقوقهم في حياة كريمة عادلة.. بل وصل الأمر أن «حِمارًا أكل في أرضٍ غير أرضَ صاحِبه» كان سببًا في اشتعال الثأر بين عائلتين ووقوع اثنى عشر ضحية، لكن يظل «الجهل» و«الفقر» أهم الأسباب التي وصلت بنا إلى هنا.

طبقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري والصادر في 2017 وصل تعداد محافظة قنا كمثال إلى 3 ملايين و164 ألفًا و281 مواطنًا، وطبقًا للحالة التعليمية «10 سنوات فأكثر» بلغ عدد الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة 682 ألفًا و358 مواطنًا، وبلغ عدد من يقرأون ويكتبون بدون مؤهل 204 آلاف و894 مواطنًا.

وطبقًا لسبب التسرب من التعليم «6 – 20 سنة» وصل إجمالي المتسربين من التعليم في محافظة قنا وحدها 52 ألف مواطن، وجاء سبب عدم رغبة الأسرة أولًا بإجمالي ما يقرب من 17 ألف حالة، ثم عدم رغبة الفرد في التعلم حوالي 15 ألف حالة، ثم صعوبة الوصول إلى المدرسة بواقع 2263 حالة.

وبالنسبة لمصادر مياه الشرب رصد التقرير وجود نحو 108 آلاف مواطن يعتمدون على غير الشبكة العامة للمياه، وتتمثل هذه المصادر في مياه الطلمبات والآبار والمياه المعبأة.

هذا فيضٌ من غيض في قرية واحدة داخل محافظة واحدة من محافظات صعيد مصر التي تضم مئات القرى متشابهة الظروف، الأمر الذي يُنذِر بكوارث مستقبلية لا أحد يمكنه توقعها، وهو ما يوجب تحرك كل أجهزة الدولة لحماية أجيال يقتلها الجهل والعادات والتقاليد التي يدفع ثمنها من ليس لهم ذنب.

لم يحلم «أحمد» -الذي اقترب من العِقد الثالث من العمر- أو أبناء قريته أو غيرهم في صعيد مصر سوى بحقهم في حياة طبيعية بدون خوف، حقهم في تقرير مصائر أبنائهم وعوائلهم، في الحصول على أبسط الحقوق التي كفلتها الدساتير وتكفلها الإنسانية.

 

«شرخٌ في جدارٍ.. حفظ لي عمري

فهل حفظت لكم قصورُكم أعمارَكم؟»

*رجب الشيخ