تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوزكسية في مارس الجاري بذكري رحيل البابا كيرلس السادس البابا الـ116 الذي اعترف المجمع المقدس للكنيسة الخميس الموافق 20 يونيو 2013 م بأنه قديس.
مولده وحياته
كان اسمه قبل الرهبنة عازر يوسف عطا، وقد ولد في 2 أغسطس 1902، الموافق 2 مسرى 1618 للشهداء بمدينة دمنهور من والدين محبين للكنيسة والمبادئ المسيحية.
ولما كبر كان يحلو له أن يختلي في غرفتة الخاصة وينكب على دراسة الكتاب المقدس مواظباً علي الاستزادة من علوم الكنيسة وطقوسها وألحانها وتسبيحها، كان كأحد السواح وكان معروفا أنه رجل صلاة حتى لو كان مع ناس يكون يصلي بقلبه إلى الله.
انخراطه فى سلك الرهبنة
ظل يمارس الحياة الرهبانية قبل الالتحاق بالدير أكثر من خمس سنوات، وفي يوليو 1927 قرر «عازر» الانخراط في سلك الرهبنة، فاستقال من عملة وتوجه إلي دير البراموس فى حبرية البابا كيرلس الخامس البابا الـ112، وظل عازر تحت الاختيار عدة شهور، ثم زكاه الرهبان ليكون راهبًا معهم، سيم فى 17 أمشير الموافق 24 فبراير1928 باسم الراهب مينا البراموسى، وفى يوم الأحد 18 يوليو سنة 1931 رُسم قسًا باسم القس مينا البراموسي ثم درس بعض الوقت في كلية الرهبان اللاهوتية بحلوان، ولما سمع بنبأ ترشيح البابا يؤانس له ليكون أسقفًا هرب إلي دير القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين بسوهاج، ولما عاد كأمر البطريرك كاشفًا برغبته في الوحدة فصرح له بتحقيق رغبته تحت إرشاد شيخ الرهبان التقي القمص عبد المسيح المسعودي فتوحد في مغارة تبعد عن الدير مسافة ساعة سيرًا علي لأقدام.
وفى أوائل عام 1936، عاش في طاحونة مهجورة في صحراء مصر القديمة، وكان يقيم فيها القداسات اليومية، وفي سنة 1941 أسندت إليه رئاسة دير الأنبا صموئيل المعترف «القلمونى» فى جبل القلمون بمغاغة، فعمّره وجدد كنيسته وشيد قلالي الرهبان، وتتلمذ علي يديه نخبة من الرهبان الأفاضل.
وفي سنة 1947 انتقل إلي مصر القديمة حيث بنى كنيسة القديس مارمينا بالنذور القليلة التي كانت تصله، وكان يقوم بالبناء بنفسه مع العمال، وقد تتلمذ علي يديه نخبة من الرهبان الأتقياء، وفى سنة 1949 ألحق للكنيسة منزلًا لإيواء الطلبة المغتربين، وقد اشتهر بالصلاة الدائمة والإيمان القوي فكان يأتي إليه المرضى من جميع أنحاء البلاد، فكان يصلي لهم وكانوا جميعاً يشفون من أمراضهم.
ثورة يوليو والكنيسة
كانت ثورة يوليو 1952 قد أحدثت تغييرات عميقة ألقت بظلالها على الصراع التقليدي بين الكنيسة والمجلس الملي تم إلغاء لائحة الانتخاب القديمة والتي كانت لا تشترط أن يكون المرشح راهبًا، وأصدرت لائحة جديدة «لائحة 1957» قرر فيها المرشح للكرسي الباباوي يجب ألا يقل عمره عن أربعين سنة ساعة خلو الكرسي.
رغم أن «عبدالناصر» ورفاقه كانوا من الشباب وأقل من الأربعين، كما أن اللائحة غيرت الانتخاب لأنه كان من غير المعقول أن يأتي رئيس الدولة بالاستفتاء في حين يكون كل من شيخ الأزهر والبابا بالانتخاب. لكن تعذر أن يكون البطريرك الأرثوذكسي بالتعيين فتم اقتسام الأمر، يتم الانتخاب بين ثلاثة مرشحين ثم تتم القرعة الهيكلية بينهم.
وهذه أول مرة يسمع فيها بتحديد السن 40 عامًا سن اختيار البطريرك فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتقول أيريس حبيب المصري: «وهم لم يحددوا السن فقط بل أضافوا أيضًا ساعة خلو الكرسى والغرابة في هذا التحديد أن أنبا أثناسيوس الرسولي كان في السابعة والعشرين.
من ذلك التاريخ عرفت الكنيسة شبابًا رهبانًا متعلمين جددًا فقد رشح ثلاثة من الشباب للكرسى البطريركى وهم متى المسكين، ومكارى السريانى وأنطونيوس السريانى ومن هؤلاء بدأت الحداثة بالكنيسة، وتهدئة لخواطر شيوخ الكنيسة وكبارها في السن أدرج الأنبا أثناسيوس «مطران بنى سويف» وقائمقام البطريرك اسم الراهب مينا المتوحد بوصفه المعلم والقائد الروحي لهؤلاء الشباب المرغوب فيهم، وتم اختيار الراهب مينا المتوحد بالقرعة الهيكلية ليصير بابا الإسكندرية فرسم في 10 مايو 1959.
البابا ينقل الصراع مع المجلس الملى لأول مرة إلى الدولة
أحدثت ثورة يوليو 1952 تغييرات عميقة ألقت بظلالها على الصراع التقليدي بين الكنيسة والمجلس الملي، حيث وحد القضاء وألغيت المحاكم الشرعية والوظيفة القضائية للمجلس الملي، أما عن أوقاف الكنيسة والأديرة، فقد صدر قانون الإصلاح الزراعي وقانون حل الأوقاف الأهلية الصادران في 9 سبتمبر 1952، ولم يؤثر ذلك بداية على أوقاف الكنيسة لأنها أوقاف خيرية، ولكن صدر قانون آخر في يوليو 1957 يستبدل الأوقاف الخيرية كلها بسندات على الحكومة وقد شكا الأقباط من الاستيلاء على أوقاف الأديرة والكنائس مما دفع الحكومة لإصدار قانون جديد ولكن على نطاق مائتي فدان فقط بالنسبة لكل الكنائس والأديرة الموقوف عليها، ثم نشأت هيئة عامة للإشراف على الأوقاف القبطية، ولم يبق للمجلس الملي من دور في ظل ثورة يوليو 1952، وبعد كل هذه المتغيرات وبعد ما يقرب 84 عاما من الصراع على اللائحة، وفي هذه الفترة أعيد تشكيل المجلس الملي بعد إلغاء الأحكام العرفية في صيف 1956، وجاء وكيله إسكندر حنا دميان وسكرتيره العام راغب إسكندر، وكان الأنبا يوساب الثاني لا يزال على قيد الحياة.
بعد اعتلاء الأنبا كيرلس السادس كرسي مارمرقس، لم يجد المجلس الملي بعد سحب جميع اختصاصاته من يمارس معه الصراع سوى الأنبا كيرلس ذاته، وكانت الصلاة هي أكثر ما يشغل البابا كيرلس السادس، فكان كثير الذهاب إلى الصلاة وكان يقيمها بنفسه، بعكس أسلافه الذين انشغلوا عن الصلاة بأمور الكنيسة الأخرى، وقد هاجمت صحيفة «مصر» ـ القبطية ـ حينذاك البابا كيرلس هجومًا شديدًا، وكتبت تقول: «لقد أمل الأقباط في البابا خيرًا عظيمًا، ولكن مرت الأيام وقداسته في شغل شاغل بما يقام له من أقواس النصر وهو في طريقه إلى الكنائس، أما شئون الشعب فلم يتسع لها وقته ولم تحظ بأي اهتمام أو يعيرها أي التفات، وسخرت الصحيفة من صلاواته ومعجزاته».
وهكذا فقد ناصب المجلس الملى العداء السافر للبابا كيرلس السادس خاصة بعد ادعاء المجلس الملي عدم القدرة على الإنفاق على البطريركية والكنيسة واضطر إزاء ذلك إلى الاستدانة من جمعية التوفيق القبطية ألفى جنيه ليدفع مرتبات الكهنة والموظفين، ثم توقف بعد ذلك عن دفع الأجور الزهيدة لهم في ذلك الوقت، وإزاء ذلك توجه البابا كيرلس السادس إلى الرئيس جمال عبدالناصر وعرض عليه الأمر، فأمر عبد الناصر بصرف تبرع من الدولة للكنيسة بمبلغ عشرة آلاف جنيه مصري مع حل المجلس الملي الذي ثبت فشله مع تشكيل لجنة برئاسة البابا كيرلس عام 1967 لإدارة أوقاف الكنيسة، وكانت نتيجة ذلك أن عبرت البطريركية ديونها بل وارتفع رصيدها إلى 150 ألف جنيه خلال عامين، واستمر المجلس محلولا إلى أن تمت إعادة البابا شنودة الثالث بعد تنصيبه بطريركا في 1971.
متغيرات يوليو أدت إلي أنه لم يبق للمجلس الملي من دور في ظل ثورة يوليو 1952، وبعد كل هذه المتغيرات وبعد ما يقرب 84 عاما من الصراع على اللائحة الخاصة باختيار البطريرك بين المجمع المقدس والمجلس الملي، وفي هذه الفترة أعيد تشكيل المجلس الملي بعد إلغاء الأحكام العرفية في صيف 1956.
الزعيم والبابا في محبة الوطن
كان للبابا كيرلس السادس دور عظيم من أجل تحرير الأراضى العربية المحتلة عام 1967، حيث طاف الكنائس الأرثوذكسية ومجلس الكنائس العالمي من أجل مساندة مصر ورسم لذلك نيافة الأنبا صموائيل الذي كان بمثابة وزير خارجية الكنيسة وتم الحوار مع الكنيسة الإثيوبية والإمبراطور هيلاسلاسي حتي اقتنع بإلغاء العلاقات مع إسرائيل الأمر الذي أدي إلي قطع أكثر من أربعين دولة افريقية العلاقات مع إسرائيل حينذاك.
كان للبابا كيرلس علاقات وطيدة بإثيوبيا شعب وحاكم وكنيسة، ففي 28 يونيو 1959 قام برسامة بطريرك جاثليق لإثيوبيا وعقدت اتفاقية بين كنيستي مصر وإثيوبيا لتأكيد أواصر المحبة بينهما وفي نوفمبر سنة 1959 أرسي حجر الأساس لدير الشهيد مارمينا العجايبي بصحراء مريوط، وأعاد له جزءا من جسده، وبني به كنائس وكاتدرائية تشابه في مجدها الكاتدرائية القديمة في المدينة الأثرية.
وفي يناير 1965 رأس مؤتمر الكنائس الأرثوذكسية المشرقية في أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، وهو يعتبر أول مجمع مسكوني للكنائس الأرثوذكسية غير الخلقدونية في العصور الحديثة، وناقش المؤتمر أموراً مهمة تتعلق بالخدمة والكرازة في العالم المعاصر وعلاقة الكنائس المجتمعة بالكنائس الأخرى.
كان ذلك آخر مجمع أرثوذكسي مسكوني للكنائس الأرثوذكسية ، وأيضا كان آخر بطريرك جاثليق لإثيوبيا هو الذي رسمة البابا كيرلس آخر بطريرك إثيوبي يرسم من قبل الكنيسة المصرية وانفصلت بعدها الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، وبدايات الخلافات بعدها.
«ناصر» يفتتح الكاتدرائية الجديدة بـ«الأنبا رويس»
وفى 25 يونيو 1968 استقبل البابا كيرلس السادس جسد مارمرقس بعد غيبته عن أرض مصر زهاء أحد عشر قرنًا من الزمان، وأودعه فى مزار خاص بنى خصيصًا تحت مذابح كاتدرائية القديس مرقس القبطية الأرثوذكسية التى أنشأها البابا كيرلس السادس وافتتحها في احتفال عظيم.
وأخيرا دخل البابا قلايته واستودع روحه بيد الله الذي خدمه في 9 مارس 1971، ودفن تحت مذبح الكاتدرائية التي أنشأها، وفي 25 نوفمبر 1972 م نقل جسده في احتفال مهيب إلي دير الشهيد مارمينا بمريوط حسب وصيته ليكون بجوار شفيعه مارمينا. وفي يوم الخميس الموافق 20 يونيو2013 م، اجتمع المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا الأنبا تواضروس الثاني، وتم الاعتراف بقدسية البابا كيرلس.