توجع قلبي كثيرا من المنشورات التي يكتبها أصحابها في شكل رسائل إلى موتاهم، أب أو أم، أخ أو أخت، لاسيما تلك التي يكتبها آباء فقدوا أبناءهم أو بناتهم.
أقرأ تلك المنشورات طالت أم قصرت، أجاد أصحابها في التعبير أم أساؤوا. ويتملكني حزن شديد. فكل منا له فقيد طوته الأقدار وهذا شأن الله وسنته في خلقه. تتفاوت الأعمار والأعمال ونسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.
اكتب هذا المقال وأنا حزين من تلك المنشورات التي اشتكى منها أكثر من شخص أعرفه في حياتي. فالفيس بوك صنع لأجل تواصل الأحياء فيما بينهم، وياحبذا لو ركز مستخدموه على بث الأمل والتفاؤل، ولا مانع من منشور يعلن فيه عن ميت توفي فيعرف الناس بالخبر فيعزون صاحب الميت وأهله. أما أن يتحول الفيس بوك إلى ساحة عزاء وحزن مفتوحة، فهذا يضر بأناس آخرين يشكون آلاما وفراقا لا يرغبون في بثه على ملأ من الناس.
بتنا نطالع في كل يوم عشرات المنشورات حول حالات وفيات يحولها مرتادوا الفيس بوك إلى أضعاف مضاعفة كنوع من المجاملة مع أن الأولى الاتصال بأهل المتوفى وتعزيتهم وزيارتهم للتسرية عنهم والوقوف إلى جانبهم في مصابهم. لكننا نقبل هذا من باب التعبير عن مشاطرة الأحزان، أما تلك المنشورات التي هي بمثابة رسائل إلى الموتى بمناسبة وغير مناسبة علاوة على أنها تجدد الحزن في قلوب كل المتابعين أو كثير منهم فإنها قد تتحول إلى نهج عام يشغلنا عما يجب أن نفعله من أجل هؤلاء الموتى.
فكما ساعد الفيس بوك في تحويل المناسبات السعيدة كأعياد الميلاد وغيرها من مناسبة يتجمع فيها الاقارب والأصدقاء إلى حفلات افتراضية يكتفى فيها بمنشور على الشبكة. حتى باقة الورود التي كان البعض يرسلها خصيصا في مناسبات كهذه تحولت إلى باقات ورد افتراضية في شكل صورة ثابتة أو متحركة.
شيئا فشيئا تتحول حياتنا إلى واقع افتراضي يفتقد لدفء المشاعر والمحبة والتقدير التي تتعمق بتكبدنا مشقة حضور المناسبات المختلفة بأنفسنا، وصاحب ذلك ظهور الكثير من المصطلحات مثل الزواج الافتراضي والطلاق الافتراضي وغيره مما أثار الكثير من الجدل، ثم وصل الأمر إلى رسائل إلى الموتى يكتبها الكثيرون.
وانا لا أقصد تلك المنشورات التي يطلب أصحابها الدعاء للميت أو قراءة الفاتحة له أو حتى تلك التي تحكي المآثر الطيبة للموتى ولو من باب اذكروا محاسن موتاكم، بل أقصد المنشورات التي هي عبارة عن رسائل طويلة أو قصيرة يحكي أصحابها قصة آلامهم مع الفراق ويسردون قصصا تراجيدية تدمى لها القلوب قبل أن تدمع الأعين وتلك تؤذي ولو بعض قرائها. ولا يكون نصيب الذي نشرها من أغلب من قرأوها إلا "نكدت علينا الله ينكد عليك".
وإذا تأملنا مقولة الفيلسوف "كلود برنار" في تعريفه للحياة بأنها الموت، نفهم أن الموتى أحياء انشغلوا بتفاصيل حياتهم عن الأحياء الموتى الذين باتوا يسلمون أنفسهم لأفكار خزعبلية تحت دعاوى التطور التكنولوجي الذي يفرض نفسه علينا.
لذا أردت، وكلي حب وتقدير لهؤلاء الذين يكتبون رسائل لموتاهم عبر الفيس بوك، ارجوكم اقرأوا لهم القرآن أو ادعوا لهم بالرحمة وصلوا من أجلهم أو اصنعوا لهم صدقة جارية تكون في ميزان حسناتهم، وتوقفوا عن كتابة تلك الرسائل، فالموتى الأحياء لا يقرأون الفيس بوك (في اعتقادي) بل هم مشغولون بأمور أعمق وأهم، فهم في مرحلة جديدة من الحرية كما يقول "هوكنج" وكما نؤمن نحن في عقائدنا الدينية وإنما الذين يقرأون تلك المنشورات هم الأحياء الموتى الذين يضنيهم الحزن ولا يكون لمنشوراتكم إلا مزيد من الألم القاتل بداخلهم.
رحم الله موتانا جميعا وأسكنهم الفردوس الأعلى وهدانا لما فيه الخير والصلاح.