الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

هناك ما يستحق الحياة فى فيلم "الخلاص من شاوشانك"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

     لا أذكر أننى شعرت بالظلم أبدًا، وأنا أتابع إعلان جوائز "الأوسكار"، مثلما شعرت به، وأنا أشاهد حفل توزيع تلك الجوائز القيِّمة لعام 1994، بعد ترشيح الفيلم السينمائى "الخلاص من سجن شاوشانك" The Shawshank Redemption  لسبع جوائز؛ أحسن فيلم، وسيناريو، وتمثيل للعبقرى "مورجان فريمانو"، وموسيقا، وصوت، وتصوير، ومونتاج، إلا أنه لم يفوز بجائزة واحدة ! على الرغم أنه رواية سينمائية رصينة، ذات رسالة بليغة، تجسد انتصار الروح الإنسانية، وتمسكها بحقها الكامل، فى اختيار أن تعيش بهجة الحياة، بديلًا عن الاستسلام للموت البطىء.

     تلاقت بإحكام فى هذا الفيلم رفيع المستوى، الفكرة الدرامية الرئيسية، مع قضايا فلسفية مُدهشة؛ أهمها معجزة البعث الروحى، وقدرة طاقة الأمل، على تحرير الذات الإنسانية، وإنقاذها من سموم اليأس، وصولًا إلى مرفأ النجاة، على الرغم من انكسارات وهزائم الروح المتكررة، والمُهلكة، وهو مأخوذ عن رواية "ريتا هيوارث والخلاص من شاوشانك"، لمؤلف قصص الرعب الشهير "ستيفن كينغ"، التى نشرها عام 1982، وكتب الرواية السينمائية، وأخرجها، الموهوب "فرانك درابونت" عام 1994، ولعب بطولتها؛ كلٌ من الممثل المتمكن "تيم روبنز" فى دور "آندى"، والممثل الممتاز "مورجان فريمان" فى دور "ريد".

     تدور أحداثه الدرامية حول "آندى" الشاب المتعلم، ذو المنصب المرموق، الذى اتهم ظلمًا بقتل زوجته وعشيقها؛ ومن ثم يحاول إثبات براءته، بكل الطرق الممكنة، لكنه يخفق فى ذلك؛ وبالرغم من ذلك، لم يسقط فى مستنقع الحزن والاكتئاب والألم، بل حوَّل السجن إلى مكان أفضل بالنسبه له، ولكل زملائه، حينما بعث بعشرات الرسائل إلى مختلف المسئولين؛ لجلب العديد من الكتب إلى مكتبة السجن، ليدفع المساجين إلى التعرف على متعة القراءة، والاطلاع، والمعرفة، ويحرضهم على الحصول على الشهادات الدراسية، التى تؤهلهم إلى شخصيات ناجحة، وحياة مختلفة، بعد الخروج من السجن.

    نعيش مع "آندى" قبضة السجن الحديدية، مع أقرانه من المجرمين، الذين يعقد معهم صداقات مخلصة، ويلجأ إلى مساعدتهم، لكنه يظل فى ذات الوقت، يخطط سرًا فى صبر غير عادى؛ بهدف الهروب من السجن، وبالفعل يستطيع ذلك فى النهاية، بعد أن ينجح فى تنفيذ خطة أسطورية، استغرقت تسعة عشر عامًا؛ لعبوره من نفق العبودية إلى شاطئ الحرية؛ ليمنحنا جميعًا، نموذجًا إنسانيًا فريدًا، على قدرة الإرادة الإنسانية، وقوة التمسك بالحلم، الذى يمكن ملامسته؛ بالعمل الجاد، والمتواصل، على الرغم من سحابات العجز والخيبة والفشل.

     يدخل "آندى" فى لقطة رئيسية Master Shot إلى غرفة رئيس السجن، وينتبه إلى غلاف إحدى المجلات الموجودة على مكتبه؛ فيتصفحها فى شغف، ثم يبادر بفتح أحد الأدراج؛ ليجد العديد من الأسطوانات الموسيقية، المغلفة بورق ملون فاخر، فيلتقط واحدة، وهى لإحدى الأوبرات العالمية، ثم يضعها على جهاز "الجراموفون"، لينطلق منها صوت أوبرالى نسائى "سوبرانو"، جميل؛ فيرفع جميع مفاتيح تشغيل، أجهزة مكبرات الصوت، المعلقة فى جميع أنحاء السجن؛ ليعيش لحظة تاريخية، نادرة، فى هذا العالم الساحر، الذى يشاركه فيه كل زملائه، فى كل ساحات، وزنازين السجن، مبهورين، وسط صدمة كل الحراس، والعاملين به.

     يغلق "آندى" غرفة رئيس السجن بالمفاتيح، ثم يجلس منفردًا، ساكنًا، ممددًا رجليه على مقدمة مكتبه، مستغرقًا فى عالم الموسيقا، والغناء، المبهر، متناسيًا سجنه، وقيوده، وظلمه، ووجعه، متمسكًا فى تحدى شديد، وإيمان، وإصرار، على الخلاص من أغلال تلك القضبان المميتة؛ ليبعث برسالة بالغة القوة، إلى كل زملائه، وكل العاملين بالسجن، وإلينا جميعًا، هى ذاتها العبارة المكتوبة على ملصق الدعايا للفيلم، التى تقول: "إن الخوف يمكن أن يبقيك سجينًا طول العمر، لكن الأمل هو فقط وحده، القادر على إطلاق سراحك" ! وينتهى المشهد بإجبار "آندى" على فتح باب الغرفة، والقبض عليه، ومحاكمته؛ إلا أن شعلة الأمل بداخله، لم تنطفئ أبدًا، وهو ما عبر عنه فى حواره مع "ريد" خلال الأحداث الدرامية: "عليك أن تختار، إما أن تشغل نفسك بالحياة، أو تشغل نفسك بالموت".

     يتميز الفيلم بأصالة حقيقية، نابعة من خلوه التام من الادعاء، بما ليس فيه، أو تنميط الشخصيات بين الشرير والطيب، أو مشاهد العنف المجانية، أو الحوار الزائد عن الحاجة، كما يعرض "السيناريو" الأحداث الدرامية، دون تعليق فلسفى، قد يثير مشاعر الضيق أو الضجر، إضافة إلى تفرد "أسلوب السرد" المُشوق، و"البناء الدرامى"، المتأمل، والهادئ، والبطئ، فى غير تطويل، الذى يجسده سيطرة صوت "الراوى" المتأمل، والمُتفحِّص، فضلًا عن براعة التصوير، الذى رسم بالنور، كل لقطات السجن، التى استغرقت كل المشاهد تقريبًا؛ ليقدم حقيقة جميلة، وخطيرة فى ذات الوقت، ربما ننكرها، أو نتجاهلها، رغم بساطتها، ووضوحها، وهى "أننا نمسك جميعًا، بمفاتيح سجوننا الذاتية، بأيدينا ! فنحن من نختار، بين جرأة الأمل، أو هزيمة الروح."

     يقدم الفيلم دراسة ممتازة، لتجربة روحية مثيرة، دون استغلال معاناة أبطاله، كما تضافرت بقوة كل العناصر السينمائية؛ الفكرة، والحوار، والإخراج، والتصوير، والديكور، والإضاءة، والصوت، والمونتاج، والملابس، والاكسسوار، وأداء الشخصيات الدرامية، التى أضيف إليها شخصية أخرى، هى تكوين سجن "شاوشانك"، المعمارى، والتاريخى؛ فنجح عن جدارة فى منحنا جميعًا؛ المتعة الذهنية، والفنية، والجمالية، التى فتحت أمامنا مباهج فكرية وفلسفية مهيبة، ربما لم نكن نعلم عنها شيئًا، إلا أنها أبصرتنا، وأرشدتنا فى لحظة ما، إلى أنه ليس من المستحيل أبدًا، تجديد صناعة ذواتنا، وإرادة خلق أقدارنا، مرة أخرى، بقفزة واحدة، شجاعة، وحاسمة؛ لتنقلنا من أعمق قاع إلى أعلى قمة، بالرغم من تعاظم انكساراتنا وإحباطاتنا وإخفاقاتنا؛ فاستحقت هذه التحفة السينمائية المبهرة، تصفيق الجميع فى النهاية، بعد أن غرست فى عتمة العقول والنفوس والضمائر، تلك المعانى المشرقة، للوجود، والكون، والحياة.