"قنديل أم هاشم" و"البوسطجي" و"كناسة الدكان" و"مدرسة المسرح" و"يا ليل يا عين" و"دماء وطين" و"أم العواجز" وغيرها من الأعمال الأدبية، التي تجد فيها لغة الأديب يحيى حقي الجميلة والحية في نفس الوقت، بالإضافة إلى حنوّه على الشخصيات التي يكتب عنها، فتجد تأملاته العميقة في جوانب الحياة المصرية المتعددة.
رحلة طويلة وخصبة عكسها "حقي" في أعماله، عندما أصبح مؤصلًا لفن كتابة القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، وعاش واحدًا من طليعة المثقفين الكبار، وأبًا روحيًا لكل الأجيال الجديدة، التي جاءت من بعده وهو يرعاها في حنو وثقة وتقدم على الطريق.
شكلت الحارة المصرية جزءًا كبرًا في حياة الأدبية، فكرس كتاباته للبسطاء، إلى أن تحولت بعض أعماله إلى أفلام سينمائية، حققت بدورها نجاحًا كبيرًا على الساحة الفنية.
التقت "البوابة نيوز" الكاتبة والإعلامية نهى حقي نجلة الأديب الراحل يحيى حقي، للتعرف على أبرز محطاته الإبداعية وكواليس رحلته إلى بلاد الحرمين، ورسائله لها، وعلاقته بالناقد فؤاد دوارة، ومكتبته الخاصة، والكشف عن تاريخ ميلاده الخاطئ الذي تتداوله الصحف والمجلات وشاشات التلفزيون حتى الآن وتصحيحه.. إلى نص الحوار....
* ماذا يمثل اختيار الهيئة المصرية العامة للكتاب الأديب يحيى حقي شخصية المعرض بدورته الـ53 بالنسبة لكِ؟
- أعتقد أن هيئة الكتاب تلتفت لكل كُتّاب ورموز مصر، لأن هؤلاء المُبدعين الكبار أهدوا لنا البوابة الذهبية لكل الفنون والآداب بحياتنا.
* في حياة كل كاتب جانب إنساني لا يعلمه إلا المقربون له.. حدثينا عنه!
- تميز يحيى حقي بالأبوة والحنان لكل الناس، يتحمل كل من يلتقيهم، فهو إنسان صادق ومتصالح مع نفسه، عندما ترى وجهه تشاهد كل هذه المعاني التي تُشع منه، يعود ذلك من حيث إحساسه وطبيعته، وكذلك البيئة الذي نشأ فيها والحياة الأسرية الذي عاشها، لذلك لم أسمع منه طيلة حياتي كلمة نابية نهائيًا أو حتى مع الذين عملوا معه سواء في المنزل أو العمل، عندما فارق الحياة والتقى ربه، لم يعد لي قلبًا يتحمل مشهد النظرة الأخيرة والوداع له، لكن شاهدته زوجته الفرنسية مبتسمًا يُشع من وجهه النور.
* كانت رحلته إلى "بلاد الحرمين" من أهم المحطات في حياته.. فماذا عنها؟
- كانت هذه الرحلة في النصف الأول من القرن الماضي، تختلف فيها الحياة والبيئة تمامًا عكس الآن، التي شهدت معاناة في السفر للمملكة العربية السعودية عن طريق البحر، فهي مرحلة ثرية، لأنه تعرف منها على طبائع الناس في هذه التظاهرة الدينية عن "الحجيج"، الذي يأتي له من كل فج عميق، فقرأ الشعر العربي القديم أثناء تواجده بمكتبة القنصلية، وتعرف خلالها على نافذة المناجم الثرية من هذا التراث العربي، تلك الرحلة تعد من أهم محطاته في دخول هذا الباب، الذي أثرى حياته الثقافية والأدبية وأثقلت من موهبته تمامًا.
* لعب حي السيدة زينب دورًا بارزًا في حياته الأدبية، فكيف عبّر عن الحارة المصرية؟
- كان حي السيدة زينب شاهدًا على مولده، تلك البيئة التي نشأ وعاش فيها، قبل الانتقال إلى منطقة الحلمية، فيقول "حقي": "الساحة تجعلني ابن بلد، وأنني ملتصق بابن البلد عبر المكان والزمان"، فهو محب ومصاحب لأبناء هذا الحي سواء بائعة الجبن، والبسطاء، وغيرهم، كل هؤلاء ساهموا في تشكيل وجدانه، ونظرًا لاهتمامه بهم قرر أن تكون كتاباته لهؤلاء البسطاء.
* هناك طقوس خاصة في حياة كل مؤلف تختلف من كاتب لآخر أثناء الكتابة.. فماهي؟
- عندما يستحضره موضوع ما يدور في ذهنه، كان يتجه من غرفة نومه إلى مكتبه مرتديًا الروب إستعدادًا للكتابة، ذلك المكتب له خصوصيته الخاصة، فعلى الرغم أنه كان ضليعًا في اللغة العربية وإجادة مفرداتها وأسرارها، إلا أن يرافقه دائمًا مجموعة كبيرة من القواميس بحثًا عن الكلمة في مكانها الصحيح، فقد عانى كثيرًا أثناء الكتابة، فإذا كانت المقالة تستغرق عشرة دقائق في الكتابة، إلا أنها تصل إلى خمس ساعات، وذلك نظرًا لدقته المتناهية الذي يريد إيصالها للقارئ، حتى لا يشعره بمدى معاناته في بحث الكلمة، التي تجعلك كقارئ تشعر بالرقي والإنسانية والإنسيابية أثناء القراءة، حتى يقدم له الكلمة على طبق من فضة، وعند الانتهاء من الكتابة تبدو عليه علامات التعب والإجهاد وبسؤاله: ماذا بك يا أبي؟ يُجيبني قائلا: "أنا كنت في حالة ولادة متعثرة"، تلك الولادة التي ينتج عنها طفلًا نقيًا في أزهى حالاته الصحية، فالكلمة لا تموت، لذا فهو يحترم ويقدس الكلمة بكل ما فيها، التي إذا حذفتها من سياق الحديث تفقد معانيها.
* يتدوال موقع ويكيبيديا تاريخ ميلاده الموافق 17 يناير 1905، والذي ينتج عنه إحياء تلك الذكرى في الصحف والمجلات وشاشات التلفزيون في مثل هذا اليوم، هل هذا صحيح؟
- هناك العديد من الأخطاء الشائعة الموجودة على الكثير من المواقع الإلكترونية، لكن للآسف لا أحد يبحث عن مدى صحتها! والصحيح أن يحيى حقي ولد في 7 يناير 1905، وليس 17 مثلما هو مدون بموقع ويكيبيديا، إضافة إلى ذلك أن كثير من الإعلاميين يقولون: "إن يحيى حقي تخرج في المعهد العالي للحقوق"، لم يعد في هذا الزمن مثل هذه المصطلحات، فكانت باسم "مدرسة الحقوق العليا"، وهو سمة العصر في ذلك الوقت، مثل "مدرسة الزراعة العليا" وما إلى ذلك، ومن الغريب أيضًا تناقل وسائل الإعلام أنباء عن أنه عمل وكيل نيابة في الصعيد! هذا خطأ وإنما هو عمل معاون إدارة، وكذلك قنصلا بالمملكة العربية السعودية، ولكن الصحيح أمين محفوظات، لذلك أدعو الجميع تحري الدقة حتى لا ينساق أحد خلف المعلومات الخاطئة لكل رموزنا.
* ربطت الناقد فؤاد دوارة علاقة صداقة وطيدة بالأديب يحيى حقي نتج عنها 12 كتابًا من إجمالي أعماله الأدبية الكاملة حدثينا عن هذا.
- لم ير والدي في حياته الثقافية والأدبية والإنسانية رائدًا يعشر به مثل الناقد فؤاد دوارة، الذي يعي جيدا من هو يحيى حقي، فقد استقطع من وقته وجهده باعا طويلا من أجل بحث وجمع العديد من مقالات "حقي" المتناثرة هنا وهناك، بالإضافة لتصنيفها في عدة مجالات سواء في السينما، والمسرح، والنقد، والهموم الثقافية.. وغيرها، كل هذا دون مقابل، عكس ما نشهده على الساحة الآن، لذا أوجه الشكر لهذا الناقد العظيم والصديق المحب القادر على العطاء، الذي خدم الساحة الثقافية بكتابات وإبداعات والدي.
* تضم مكتبته أمهات الكتب في شتى المجالات فماذا عنها؟
- لقد أهدى والدي مكتبته الخاصة إلى جامعة المنيا في ذكرى ميلاد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، لكن لا أتذكر العام تحديدًا، وذلك بناءً على تقدير الجامعة له ومنحه الدكتوراة الفخرية، وهذا ما أسعده جدا.
* ما الذي ترشحينه من أعماله الأدبية للقراءة الآن؟
- كل قصص يحيى حقي القصيرة رائعة ومتميزة، لأنها تحتوى على الأستاذية وروح الدعابة والوصف والجمال، فأنا أحب "عنتر وجولييت"، "تنوعت الأسباب"، "إفلاس خاطبة" وغيرها من القصص، فهو يؤرخ بعيون ثاقبة وفنية لكل الفنون، بالإضافة إلى أنه أفرد في "مدرسة المسرح" دراسة عن سيد درويش ودوره في الأغنية العربية وتطويرها، وبعد ذلك عرج لنا فن المونولوج وتحدث بحب وإعجاب شديد بالفنان "شكوكو"، فكتب عنه خفة ظله وتواصله مع الناس، حيث أسهم "حقي" في بداية ظهور مسرح العرائس في مصر وكتب عن "الأراجوز"، ووصف لنا عن رحلة المونولوج وكيفية ظهور المونولوجات والذي من أهم أبطالها هم: إسماعيل ياسين، وثريا حلمي، وأفرد خلالها كثيرين، هذه الدراسة تخللت باطن الحياة الشعبية والسيرة العطرة الذي يدونها عن كل إنسان بوصف دقيق.
لدى "حقي" كتابين الأول بعنوان "عطر الأحباب" والثاني "ناس في الظل"، سرد خلال إحداهما شخصية مصرية تهاجم الإنجليز في ذلك الوقت وكانت مطلوبة، حتى قرروا الإنجليز إخضاعة للمحاكة وإعدامه، هذا الشاب من إحدى العائلات الطيبة التي تتميز بالحس الوطني، والذي هرب إلى تركيا، وكان والدي في ذلك الوقت يعمل بالخارجية، فتعرف على هذا الشباب الهارب وعندما سمع منه قصته، وصفه "حقي" في كتاباته وصفًا دقيقًا في كل شيء، ليعطيك الصورة بكل أبعادها عن هذه الشخصية، وكأنه فنانا تشكيليا يرسم ويصور لنا بريشته ملامح الشخص بكل تفاصيله، كل هذا ناتج من عبقريته، فعندما أقرأ قصة من أعماله الأدبية تجد أنها كُتبت الآن.
* مسلسل "اللقاء الثاني" نالا نجاحا كبيرا، كيف تذكرين هذه التجربة الرائعة؟
- عندما كتبت هذا المسلسل وقدمته في الإذاعة، قال والدي: "أنا بقيت مشهور.. أنا والد نهى"، هذا العمل لم يخل من نقده اللاذع، حيث تشاور معي في العديد من الملاحظات وتقديم النصائح، ورأى أن هذا العمل في المجمل العام بداية إبداعية جيدة، لذا أتبعته عدة قصص قصيرة.
* نشرتي "رسائل حقي إلى ابنته" حدثينا عن مجمل هذه الرسائل!
- هذه الرسائل ليست بها فلسفة أو عمق أدبي أو غيره، لكن من يريد أن يعرف يحيى حقي جيدا من خلال هذه الرسائل التي كتبت لي عبر سنوات من العمر، فعندما أسافر إلى الإسكندرية كان يرسلها لي، حتى أيام السفر للخارج مع زوجي أيضا، هذه الرسائل تنم على شخصيته، تحمل في مضمونها موضوعًا ما يحدثني عنه، كذلك إذا كتبت شيئا ينتقدني فيما كتبته في رسالته ويضيف لها النصيحة، كل هذه الرسائل مليئة بالمشاعر الإنسانية التي تسعدني أينما أذهب من مكان لآخر.
* وماذا عن أم كلثوم في حياة نهى يحيى حقي؟
- أسعدني الحظ بالتعرف عليها أثناء زيارتنا لأحد أقارب والدتي، وهو دكتور متخصص في الأنف والأذن والحنجرة، وكانت أم كلثوم تعتز به، ففي كل يوم جمعة تجتمع الأسرة في حديقة منزله بالهرم في جو أسري محاط بالود والمحبة، دائمًا أجاورها في الجلوس حتى صارت صداقة بيننا، فهي لها شخصيتها الخاصة حتى في بساطة الجلسة، كانت تُحب ابنة خالتي ودائمة التترد في زيارتها من وقت لآخر، وفي إحدى المرات تحدثت معي في كلمات أغنية ستغنيها في الإذاعة ومن بين هذه الكلمات كلمة "مستجير الحب منك.. من عمايلك مستجير" وبسؤالها دون قصد: "حضرتك مش شايفة إن كلمة "مستجير" صعبة شوية؟"، فأجابتني أم كلثوم قائلة: "ده مستجير بالله يا نهى".
وعندما تحدثت مع والدي في هذا الشأن، شرحت له أنني لم أقصد مضايقتها، وهل تصلح هذه الكلمة للغناء؟ فأجابني قائلا: "أنا حصلي هذا الموقف منذ خمسة عشر عامًا مع عمي طاهر حقي الذي يمتلك صالونا ثقافيا في نفس المنزل الذي تعيش في الأسرة، حيث يستقبل فيه مجموعة من الأدباء والشعراء على رأسهم الشاعر أحمد بك شوقي، الذي كان يصطحب ابن أخيه معه في المجلس للتعرف على الحضور"، وعندما طلب المجلس من أمير الشعراء إلقاء أحدث أبياته الشعرية على الحضور فقاطعه يحيى حقي قائلا: "في البيت الثالث من هذه الأبيات كلام غير متزن"؛ فنهره عمه، وردّ "شوقي بك" قائلا: "أتركه يا طاهر أنه يستوعب تمامًا هذا البيت ولديه فهم في الوزن وبحور الشعر".
لذا كان والدي معجبًا بمخارج ألفاظ أم كلثوم، وثقافتها، وتعليمها، وإنسانياتها لأبعد الحدود، ورغم كل الآلام التي بداخلها فإنها كانت إنسانة حيوية.
