الإثنين 01 يوليو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

فصل المقال فيما بين القانون والشريعة من انفصال(3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في حال البحث في التاريخ الإسلامي عن أسلوب تطبيق العدل الشرعي زمن النبي والراشدين، بحسبانه الزمن النموذج لتطبيق الشريعة، نكتشف مفاجآت تند عن الحصر، سنضرب منها هنا مجرد أمثلة سريعة لا تشكل واحدًا بالمائة من مجموع تلك المفاجآت؛ لنضعها أمام من يريدون إقصاء القانون المدني وتبخيسه، بكونه وضعيًّا، واستبداله بالشريعة الإسلامية ضمانًا للعدل، مع تساؤلات سريعة في إشارات تنبيهية، تترتب بالضرورة على نماذج تطبيق العدل الإسلامي في زمنه القدسي.
في رواية حدثت سنة ثمان للهجرة، لا يخلو من ذكرها مصدر إسلامي، سواء كان سيرة أو تاريخًا أو حديثًا، تفصح عن طبيعة الأحكام وطريقة تطبيقها لتحقيق العدل السماوي، تقول الرواية: “,”كان مولد إبراهيم عليه السلام -ابن رسول الله من السيدة مارية القبطية- في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة...“,”، وروى الواقدي بإسناده قال: “,”كان الخصي الذي بعث به المقوقس (اسمه مابور) مع مارية يدخل عليها ويحدثها، فتكلم بعض المنافقين في ذلك، وقالوا: إنه غير مجبوب وإنه يقع عليها. فبعث الرسول علي بن أبي طالب أن يُقرره وينظر فيم قيل فيه، فإذا كان حقًّا قتله، فطلبه علي فوجده فوق نخلة، فلما رأى عليًّا يؤمه أحس بالشر، فألقى إزاره فإذا هو مجبوب ممسوح“,”، وهو ما يعني أن عليًّا لو وجد له أعضاء تناسلية سليمة لقتله تنفيذًا للأمر النبوي، لمجرد الظن، واستجابة لشائعة ومكيدة، ودون أربعة شهود عدول عالمين بالشريعة، ودون التيقن من دخول المرود في المكحلة، القتل هنا بالأمر المباشر؛ بسبب شبهة غير مؤكدة. فهل مثل هذه العدالة هو ما يعرضه علينا طُلاب الشريعة اليوم؟.
ولا تجد مسلمًا لا يعلم بقصة إرسال النبي خالد بن الوليد لتحصيل الزكاة من القبيلة المسلمة المعروفة ببني جذيمة، لكن خالدًا وجدها فرصة ونهزة للانتقام من بني جذيمة، الذين سبق وعدوا على عمه، الفاكهة بن المغيرة، زمن الجاهلية فقتلوه، ولما وصل خالد مضاربهم سمع وجيوشه صوت الأذان بمساجدهم، ودخل عليهم وهم يتهيأون لإقامة الفجر، فأمرهم بالاستئسار وربطهم مكتفين في حبل طويل، وقدمهم إلى الذبح على التتابع، رغم إقرارهم بالزكاة وجمعهم لها لتأديتها، وتمكن بعضهم من الفرار من المجزرة هاربين إلى النبي يخبرونه ما فعل خالد، فغضب النبي غضبًا شديدًا حتى رؤي لوجهه ظلل، ورفع يديه إلى السماء حتى ظهر بياض إبطيه مناديًا ربه: “,”اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد“,”، قالها ثلاثًا.
هذا ما فعله النبي مع كل الغضب بسبب مجزرة خالد في بني جذيمة، نادى ربه ليشهده أنه بريء مما فعل خالد، فلا أمر به ولا علم، وأنه برئ من دمهم!! ولم يصدر بشأن خالد أي عقوبة لقتله هذا العدد من المسلمين ثأرًا لكافر مات في الجاهلية، رغم أن المجزرة قد تمت عن نية مُبيتة وعن سابق إصرار وترصُد.
الكارثة أن تجد بعض المتفيقهين يحاول تبرئة خالد بقولهم إن بني جذيمة كانوا مرتدين أو إن بعضهم ارتد، فلم يكفهم ما لحق الجذاميين من إبادة جماعية، بل يتم تكفيرهم لتبرئة القائد المُدلل في تاريخنا خالد بن الوليد، وهو الموقف المُخزي الذي يرد عليه تصرف النبي نفسه؛ إذ أمر بدفع الديات لمن بقي من الجذاميين، وما كان للنبي أن يدفع دية لغير مسلم أو لكافر مقتول بيد مسلم (انظر نموذجًا سنن النسائي 8/ 237)، مرة أخرى ترعبنا فروق الزمن وأساليبه لنسأل هل سيطبقون علينا هكذا عدالة؟.
وخالد هو النموذج للرعب وارتكاب ما هو جرائم تامة المواصفات ضد الإنسانية، وإشفاقًا على أجدادي وجداتي البعيدين، أحمد الله أن قائد فتوح مصر لم يكن ابن الوليد، والوليد أبوه الذي عسى في الكفر والتجبر حتى خصص له القرآن آيات تخصه بالغضب الإلهي، ومصيره في الحطمة: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا»، و“,”الوحيد“,” كان لقب الوليد المتجبر في الجاهلية، ومن بعده تجبر وليده خالد في الإسلام على المسلمين وغير المسلمين..
ففي خلافة أبي بكر أرسله الخليفة لجباية الزكاة من بني يربوع، وكانوا من المسلمين الخُلَّص، وكان سيدهم، مالك بن نويرة، قد أصبح صحيح الإسلام وصحابيًّا جليل القدر، وما أن وصل ابن الوحيد مضاربهم حتى استأسرهم، وأجرى فيهم السيوف، في مذبحة دموية رهيبة، دونما سبب واضح سوى الهمس الخافت، لكنه الواضح والمتكرر في كتب السير والأخبار، أن خالدًا قد بلغه مبلغ جمال وفتنة زوجة مالك بن نويرة، وما كان له من سبيل إليها وهي زوجة مسلم، فتم تكفير القبيلة كلها، وذبح زوجها مع من ذبحوا؛ لتصح لخالد سبية حرب ينكحها كملك يمين، وتم وضع رأس الصحابي مالك تحت قِدر طعام يغلي يُعد لخالد بعد إشعاله، ليضاجع بعد عشائه السمين أرملته المكلومة في زوجها وعشيرتها..
وهو مالم يسامحه عليه عمر بن الخطاب أبدًا؛ فذهب يطلب من الخليفة أبي بكر عزله: “,”اعزله إن في سيفه رهقًا“,”، وأن يحاكمه، قائلاً لخالد: “,”يا عدو الله، عدوت على امرئ مسلم فقتلته، ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك“,”، لكن الخليفة لم ينفذ لعمر هذا ولا ذاك، قائلاً: “,”والله لا أشيم سيفًا سله الله على المشركين“,”؛ فخالد كان مقاتلاً شجاعًا شرسًا وسيفه مطلب هام وضروري للجيوش والفتوحات، ولا توقع عليه العقوبة؛ فهو ليس من عوام المسلمين، فهو من أصول قبلية عريقة وقوية وكثيرة النفر والنفير وثرية ولها مكانتها، ويُعمل لها ألف حساب. لكن عمرًا ظل على موقفة؛ فكان أول أمر أصدره عند توليه الخلافة هو عزل خالد بن الوليد (انظر نموذجًا تاريخ بن الأثير 7 / 165).
وهو ما يعني أن الشريعة كانت تُطبق أو لا تُطبق، وأن العدل كان يعمل أو لا يعمل؛ فيصبح ظلما صريحًا، حسب الظروف، وحسب مكانة الجاني والمجني عليه، دون قاعدة واحدة واضحة تطبق على الجميع، وهو ما يحرص عليه بشدة القانون المدني اليوم، بنصوص دقيقة، ومراحل تقاضٍ وأدلة، ودفوع، تطبق على الجميع بذات القدر والمعيار، فهل يريدنا دُعاة الشريعة التخلي عنه والخضوع لمزاج ابن أبي قُحافة، أو ابن الوليد، أو ابن العياط، أو ابن بديع؟.
وقبل أن يعزله العادل عمر بن الخطاب، كان خالد قد سجل اسمه في التاريخ كسفاح نموذجي، وجرائمه أكثر من أن تُحصى، منها ضربًا للمثل ما ترويه أحداث سنة 12 هجرية عن وقائع فتوحاته شمالي الجزيرة، ففي واقعة منها حول القبائل المسيحية في الحيرة، أمر خالد بجمع الأسرى وأمر بذبحهم جميعًا، إلا أسرى قبائل كلب، توسط لهم عنده بنو تميم؛ لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فقتل أسرى وعفى عن أسرى، دونما سبب له علاقة بالعدل واستقامته، إنما بالواسطة والمحسوبية، دونما أي ضابط أو رابط، وهل يكفر هنا من يتساءل: هل كان فعل خالد طبقًا للشريعة؟ وهل من تم استثناؤهم كان لسبب من الشريعة؟ أم كان الاستثناء أو الذبح بالأمر المباشر حسب المزاج و“,”الروقان“,” من عدمه؟ وإذا كان ما فعله بقتل الأسرى شريعة، فهل كان يحق لبني تميم إيقاف تطبيق الشريعة على قبائل كلب إعمالاً لحلف يعود لزمن الشرك، وأن يُقر خالد عهود الشرك ويحترمها زمن عقيدة التوحيد؟! أم أن السبب كان غياب قانون واضح محدد لمعاملة الأسرى؟ وغيابًا كاملاً وتامًّا لمفهوم الدولة وقوانين العدل؟
وهكذا تجد أن مطالعة سريعة لمفهوم العدل وأساليب تطبيقه في الزمن الأزهى للشريعة، تكشف أن فرمانات القتل كانت تصدر في التو واللحظة بالأمر المباشر، الواجب النفاذ بمجرد النطق به، حسب مكانة الآمر والمأمور، ومزاج الآمر في لحظة إصداره للأمر، وحسب تكوينه النفسي وحشيًّا كان أم سمحًا، وهو ما تزيده توضيحًا حادثة مقتل الخليفة عمر على يد أبي لؤلؤة الفارسي، وكان عبدًا أسيرًا للمغيرة بن شعبة الثقفي، وقبل أن يلفظ روحه “,”سأل عمر عبد الله بن عباس: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فقال الناس: معاذ الله ما علمنا ولا اطلعنا.. قال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام“,”، ومات بن الخطاب؛ فجُن جنون ابنه عُبيد الله؛ فانطلق يقتل كل من له أصل فارسي، فذبح صديق أبيه (الهرمذان)، الذي قال في عمر قوله الأشهر: “,”حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر“,”، وعرج على شريف من الحيرة، هو جُفينة، فذبحه؛ لأنه سمع من عبد الرحمن بن أبي بكر أنه كان يتناجى مع أبي لؤلؤة، وفي بيت أبي لؤلؤة وجد ابنته -وكانت بعد طفلة- فشقها بالسيف.
ولما تولى عثمان بن عفان الخلافة أثار الصحابة جرائم عُبيد الله بن عمر، وطالب المقداد وعلي بن أبي طالب بتوقيع القصاص، بينما رفض آخرون، ومنهم عمرو بن العاص، الذي أعطى الخليفة عثمان مبرر عدم توقيع القصاص بقوله: “,”لا يُقتل عمر بالأمس ونقتل ابنه اليوم“,”، فجعلها عثمان دية واحتملها من ماله الخاص، وقال: أنا وليه. لكن عليًّا ظل على رأيه في وجوب القصاص، ولما تولى الخلافة بعد مقتل عثمان هرب عبيد الله إلى الشام، وانضم إلى معاوية في حربه لعلي بن أبي طالب، ومات في وقعة صفين.
فهل سيكون حالنا اليوم مع أصحاب الشريعة هو حال “,”مابور“,” و“,”بني جذيمة“,” و“,”بني يربوع“,” و“,”الهرمذان“,” و“,”جفينة“,” و“,”طفلة أبي لؤلؤة“,”؟.. لأن الحاكم في الأمور كان مزاج أولي الأمر، وليس العدل..!!
انتهى.