كان بمقدور الرئيس بوتين أن يعلن اعترافه بكل من لوجانسك ودونيتسك كجمهوريتين مستقلتين، منذ عدة سنوات “حيث كان انفصالهما واقع على الأرض" لكنه لم يعلن ذلك الا منذ ايام، قبل العملية العسكرية الشاملة في أوكرانيا، في خطوة ضمن سير منحنى تصعيد الأزمة الأوكرانية مع الولايات المتحدة وأوربا. وبالتالي فجميع جولات المفاوضات فشلت في التهدئة، بل وفاقمت التصعيد، ومن ثم وجد بوتين نفسه مضطرا لاتخاذ مثل هذا القرار، كخطوة على صعيد العملية التفاوضية. وهي خطوة محسوبة، جسدتها مجموعة من الأوراق والتوقيعات.
بالطبع هناك أشكال وأنواع متعددة للعمليات التفاوضية، سواء كانت تجارية أو تكنولوجية أو حدودية أو سياسية أو على مياه أو ثروات أو غير ذلك. ولكل نوع استراتيجياته وسياساته وتكتيكاته. وسنقصر مقالنا باختصار على المفاوضة في الأزمات.
من أبجديات التفاوض في الأزمات، أن نركز على كثير من العوامل الأساسية، ونختصر أهمها:
- وضع قواعد للعبة
- بناء علاقات التعاطف وتنمية الطمأنينة والتآلف بين الأطراف
- وضع ألية التأثير على الطرف الأخر
- تحيد خريطة دقيقة لاستخدام عامل الوقت وتوظيفه بشكل أمثل.
- الامتثال الطوعي كلما كان ذلك مفيدا ومجديا لصالح الطرفين
- إجادة فنون الاستماع للطرف الأخر، وليس إجادة الكلام فقط
- عدم التسرع في اتخاذ القرار، كلما كان ذلك ممكنا.
- وغير ذلك كثير.
والروس والأمريكان والأوربيون الكبار، من المفترض أنهم ملوك وجهابذة التفاوض. لكن فيما يلي نثبت أن الصواب قد جانبهم في ادارة الأزمة. وإن كان بعضهم وجد نفسه مضطرا لسلوك هذا المسلك أو ذاك.
ـ لم نجد أي طرف من الأطراف قد التزم بأي من القواعد، فوجدنا أنفسنا بين تلاسن وتنابذ بالألقاب وتهديد ووعيد، وسباب وإشاعات وحرب نفسية. أججتها تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام عابرة القارات في التو واللحظة “قارنها بأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا عام 1962 حيث كانت أجهزة اللاسلكي العتيقة" وكيف اختار جون كينيدي شقيقه روبرت لنقل الرسائل للسفير الروسي حفاظا على السرية.
ـ أهملت الولايات المتحدة وأوربا العوامل النفسية والعاطفية التي تربط روسيا مع أوكرانيا، ولم تقم لذلك وزنا. وتناسوا أن روسيا “وريثة الاتحاد السوفيتي السابق" كانت تعطي لأوكرانيا معاملات تفضيلية عن غيرها من الجمهوريات، واستثمرت فيها مئات المليارات، وأقامت فيها صناعاتها الكبرى النووية والعسكرية والبحرية والجوية والكيماوية والمعدنية والهندسية والإنشائية. وكان ميناء "أوديسا" يمثل درة المنتجعات على البحر الأسود والذي يقضي فيه زعماء الإتحاد السوفيتي أجمل الاجازات الصيفية.
روسيا تشعر أن أغلى جزء تم اقتطاعه من جسدها. وبدلا من عرفان هذا الجزء بالجميل والعرفان وحسن الجوار، تحول في نظر روسيا الى شيطان يهددها. هذه النظرة الروسية وهذا الحزن العميق (وقد أصبح في نظر الغرب جزءا من الماضي) إلا أنه كان على الغرب أن يأخذ هذا الشعور الروسي في الحسبان، لكنهم أهملوه تماما، بل صوروا أن أوكرانيا ضحية وأن روسيا دب مفترس، وهو ما أجج نيران الخلاف.
ـ بدلا من محاولة الولايات المتحدة والغرب، شرح الموقف للزعامة الروسية، وأن الكل خاسر في اللعبة ووضع إطار زمني وتضييق التسريبات الإعلامية وإضفاء أكبر قدر من عدم العلانية والتفاوض في
هدوء، كان العكس تماما، وأصبح الكل يفتي والكل منشغل والمقالات النارية، والتصريحات الاستهلاكية والتهديد بالعقوبات القاسية والتدميرية، وإبطال مفعول المشاريع الإستراتيجية “مثل الخط الروسي لنقل الغاز الممتد على قاع بحر البلطيق" ووصل الأمر الى تلويح الرئيس بوتين بحرب نووية. وهو تلويح لم يأت من فراغ، فبوتين يعرف أن زعماء الغرب يعرفون أنه يملك القرار. أما بايدن وماكرون وجونسون فلا يملكون القرار ووراءهم مؤسسات ومنظمات وغير ذلك من آليات.
ـ خبراء التفاوض في الأزمات يعرفون القاعدة التي تقول "إن الوقت هو أكبر حليف للمفاوض في الأزمة" وللأسف لم يحسن الغرب استخدام عامل الوقت، وأخذ يطيل فيه، ويضيعه في لقاءات وتصريحات وإنذارات ودعايات لا جدوى منها. ناسيا أن روسيا طرفا واحدا والغرب عدة أطراف أمريكا وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا وغيرهم. ومن ثم عندما يكون طرفا واحدا يفاوض عدة أطراف، وهذا الطرف لا يفاوض ضعفاء ولكن يفاوض أقوياء، فلابد أن تأتي العروض لحل الأزمة من الأطراف المتعددة وإلا كان الطرف الوحيد بمثابة المستجدي وهو ضد طبيعة بوتين وضد طبيعة روسيا.
وعندما طال عامل الوقت، وتهددت زعامة بوتين، وتهددت جدوى حشده العسكري على الحدود، فكان عليه أن يتخذ خطوة إيجابية على الأرض (وليست حربا) وحرص أن تكون خطوة مفاجئة فألقى خطابا مطولا شرح فيه منفردا عوامل التاريخ والجغرافيا وأخذ موقف الدفاع وأن روسيا هي ضحية حسن النوايا عندما انسحب الجيش السوفيتي من ألمانيا الشرقية، ولولا ذلك ما توحدت ألمانيا وأصبحت القوة الاقتصادية العظمى في أوربا، وكذلك وقفت روسيا بحسن نية عندما انضمت بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق لحلف شمال الأطلنطي ولم تحرك روسيا ساكنا، وأن وعودا من الغرب لروسيا بعدم توسع الناتو شرقا، وأن أوكرانيا يمكن أن تطور أسلحة نووية، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال موافقة روسيا على انضمامها للحلف.
ـ ليس من المنطقي أن تتمسك أمريكا والغرب بعبارات انشائية هم أول من يخالفونها عندما يريدون في العديد من الدول. وأعني أن أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة ولها أن تنضم أو لا تنضم لهذا الحلف أو ذاك!! وأنه لا يمكن تقديم تعهدات كتابية في هذا الشأن. بالطبع أخطأ بوتين عندما طلب هذا التعهد. ولا أدري ماذا يستفيد رئيس أوكرانيا من ارتدائه الزي العسكري ومروره على القوات لمزيد من تأجيج الصراع. ولا أدري ما فائدة التصريحات النارية لمستشار ألمانيا والذي لولا انسحاب الجيش السوفيتي ما أصبحت ألمانيا هي التي نراها اليوم. وبالتالي جاءت سياسة "الامتثال الطوعي" التي ذكرناها في البند رقم (5)، بأن يصدر قرار من مجلس الأمن بأن روسيا لن تغزو أوكرانيا وأن أوكرانيا لن تنضم للناتو ولن تتبنى سياسات تمثل خطرا حيويا على الاتحاد الروسي.
ـ جانب الطرفان أبجديات حسن الاستماع والانصات والتفهم لطلبات الطرف الأخر، وتفرغا للكلام والشجار اللفظي وتسفيه منطق الأخر، ونشر الشائعات. وهو ضد ألف باء التفاوض "قارن جون كينيدي ونيكيتا خروشوف والسفيران الروسي والأمريكي" في التفاوض المنظم في أزمة الصواريخ في كوبا.
ـ كان قرار الرئيس بوتين بالإعتراف بالجمهوريتين، أخف ضررا من قرار متسرع أخر (فهو لا يريد الحرب) ولا يريد أن يتورط فيها. والحل في يد الغرب، وموضوع العقوبات قد يجر الجميع الى مجهول مدمر. ولا مبرر لذلك. ونتمنى حكما في أوكرانيا يكون متوازنا ومحايدا ويسعى لمصلحة وطنه.