مع تصاعد الأزمة فى أوكرانيا، اعتقد الكثيرون أن هناك تشابها كبيرا بينها وبين أزمة الكاريبى فى مطلع ستينيات القرن الماضى.
هذه السطور تحاول طرح وجهة نظر مختلفة؛ حيث إن الأزمتين تختلفان أكثر مما تشابهان، وذلك وفقا لثلاث اعتبارات؛ السياق الزمنى ومنطلق الصراع ومنظومة العلاقات الدولية.
حدثت أحداث أزمة الكاريبى 1962، في عنفوان الحرب الباردة التى ولدت من رحم الحرب العالمية الثانية.
وبينما كانت لازالت أحداث الحرب الدامية لم يسدل ستارها بعد كانت تتشكل ملامح النظام الدولى الجديد، حيث أدرك جميع الحلفاء طبيعة تلك اللحظة الزمنية، فقد أنهكت القوى التقليدية بريطانيا وفرنسا ولم تعودا قادرتين على الاستمرار فى قيادة العالم كقوى عظمى، وتجلى للجميع أن الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة هما الأقطاب الجدد، وبدأ حلفاء الأمس القريب يتربصون ببعضهم البعض منتبهين إلى تناقضاتهم فى الوقت الذى اصبح سقوط هتلر مسألة وقت.
كان الاتحاد السوفيتى هو أول من يصل إلى برلين فى 2 مايو1945 ورفع علمه الأحمر فوق مبنى الرايخ ستاج فى لحظة فارقة فى حياة الإنسانية، مرجحا كفة موازين القوى جانبه، مما استوجب الغضب الأمريكى،حيث رأى الأمريكيون التدخل لتغيير تلك المعادلة.
بالتزامن مع ذلك كانت الولايات المتحدة قد نجحت فى إجراء أول تجربة للقنبلة الذرية، وظهرت الحاجة إلى الاستخدام العلنى لهذا السلاح الجديد فى اليابان أغسطس 1945، وبذلك عدلت موازين القوى ثقلها إلى الولايات المتحدة مما استوجب غضب السوفيت.
لم يمر وقت طويل حتى أجرى السوفيت تجربتهم النووية الأولى الناجحة فى 1949، فتعادلت موازين القوى، بالتزامن مع ذلك تم تأسيس حلفى الناتو ووارسو.
هكذا بدأت الحرب الباردة منتهى التوازن، منتهى العنف، وكانت تلك أولى مراحل العلاقات الأمريكية السوفيتية كانت صراعية وصاخبة،ولكن على الرغم من ذلك، كان واضحا للجميع القواعد التى آل إليها النظام الدولى الجديد التى تشكلت سريعا وبجلاء صراع أيديولوجى يتنازع فيه الليبراليون والشيوعيون النفوذ ويحاول كل طرف زيادة مساحة نفوذه باستقطاب أطراف جدد دون أن يكون للعالم الآخر متسعا من الخيارات.
وعلى الرغم من حدة الصراع، رضي طرفا الصراع بتلك القواعد التى شكلت أسس واطر العلاقة بينهما.
تلك كانت البيئة التى حدثت فى إطارها أزمة الكاريبى، وانتهت الأزمة بازالة قواعد الصواريخ السوفيتية فى كوبا مقابل إزالة الصواريخ الأمريكية من أزمير التركية إضافة إلى التعهد بعدم غزو كوبا.
لكن النتائج الأهم هى تلك المتوسطة الأمد التى انبثقت من هذه البيئة التصالحية وقد مثلت مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية انعكست إيجابا على النظام الدولى حيث ساد الهدوء والتعاون والتنسيق المباشر بين القطبين وتوافق الطرفان على سياسة تخفيض حدة التوتر.
الأمر الذى انتهى بما لم يكن متصورا قبل ذلك فقد زار الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون موسكو مايو 1972 فى أول زيارة تاريخية لرئيس أمريكى والتقى ليونيد بريجينيف الزعيم السوفيتى وتمخض عن تلك الزيارة توقيع الجانبين على معاهدة سالت الأولى وتعنى الحد من الأسلحة الهجومية، وذلك فى إطار الإجراءات التمهيدية لحظر الأنشطة النووية العسكرية.
وبذلك توجت تلك الزيارة حقبة هى الأكثر هدوءا وأقل صراعا فى تاريخ الحرب الباردة والعلاقات السوفيتية أوالروسية الأمريكية، حتى عاد الصراع مرة أخرى عنيفا لمجموعة من العوامل على رأسها اختلال التوازن بين الطرفين لصالح الولايات المتحدة، وحتى جاءت لحظة النهاية بتفكك الاتحاد السوفيتى 1991، وبدأ بذلك نظاما دوليا جديدا يمثل البيئة التى انبثقت منه اللحظة الزمنية التى نعيشها الآن.
فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى تفردت الولايات المتحدة بعجلة قيادة العالم فى أكثر لحظات تاريخ الإنسانية المعاصر اختلالا.
وطرح المفكر الأمريكى فرانسيس فوكاياما أطروحته الشهيرة والتى تمثل المرجعية الأساسية للسياسة الأمريكية الآنية نهاية التاريخ والإنسان الأخير قوامها انتصار الولايات المتحدة والفكر الليبرالى.
عاثت الولايات المتحدة فى تلك الفترة فسادا فى الأرض
شاهرة سلاحها على من تقرر،وفى خضم نشوة تلك الانتصارات انهكت نفسها.
أيضا فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى تسربت أوروبا والولايات المتحدة إلى العمق الروسى وقامت باستقطاب أعضاء جدد إلى حلف الناتو حتى من كانوا سابقا أعضاء فى حلف وارسو.
وبدأ زحف الناتو جنوبا تجاه البحر الأسود فى جورجيا وأوكرانيا واصبح جليا أن هناك هدف غربى بتطويق روسيا عسكريا.
لم تدم تلك الفترة البائسة فى عمر الإنسانية طويلا، فسنة الحياة التغير، فبعد فترة من الترنح والانزواء بدأت روسيا لملمة شتات نفسها والصعود مجددا، كذلك الصين حققت معدلات نمو عالية بالشكل الذى أهلها لكى تفرض نفسها كقوة عظمى بين الكبار.
فى عام 2008 قام رئيس الوزراء الجورجى ميخائيل سكاشفيلى الملقب برجل الناتو فى جورجيا بالهجوم على العناصر الروسية ضمن قوات حفظ السلام المتواجدة فى الأقاليم الجورجية الانفصالية أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
فقام الرئيس الروسى فلادمير بوتين باطلاق عملية عسكرية سماها عملية إخضاع جورجيا للسلام انتهت بفرض واقع عسكرى وسياسى روسى جديد واعترف بهما كدول ذات سيادة وقام بوضع قواعد عسكرية بهما.
مثلت تلك المعركة محطة تاريخية فاصلة بين زمن الهيمنة الأمريكية وزمن الصعود الروسى مجددا. فكانت جورجيا الصخرة التى تحطمت عليها أحلام الناتو،كما مثلت رسالة ذات دلالة عميقة أن روسيا عادت لحلبة الصراع من جديد.
كرر الناتو نفس محاولته الفاشلة مرتين فى أوكرانيا بكل ما تمثله من أهمية جيوسياسية للأمن القومى الروسى محاولا اجتذابها إلى الناتو.
انقض الرئيس بوتين لحماية مصالح بلاده والقاعدة العسكرية الروسية سيفاستبول بالقرم، وقام بدعم استفتاء حق تقرير المصير لسكان شبه جزيرة القرم 2014، ثم ضمها لأحضان الوطن الأم روسيا على حد تعبيره.
وبالتوازى مع البحر الأسود، وعلى شاطئ البحر المتوسط لم تكن سوريا بعيدة عن ذلك الصراع الدولى فهى تحمل بين جنباتها القاعدة الروسية فى البحر المتوسط وتمثل الأرضية العربية المتبقية للنفوذ الروسى.
وكما تسلل الغرب إلى جورجيا وأوكرانيا، تسلل أيضا إلى سوريا محاولا الاطاحة بالحليف الروسى المتبقى فى المنطقة الرئيس بشار الأسد، مما استدعى من الرئيس الروسى الوقوف بكل قوة لدعم حليفه.
وما نجحت فيه الولايات المتحدة فى العراق فشلت فيه فى سوريا وأوكرانيا ومن قبلهما جورجيا، لتمثل تلك البلاد مسرحا تنعكس عليه متغيرات النظام الدولى،بعودة قوية لروسيا كقوة عظمى مناوئة ومحطمة للهيمنة الأمريكية.
تلك المعارك كانت لها أصداؤها فى مجلس الأمن، حيث وقف الطرفان الروسى والصينى يدعمان بعضهما البعض فى تلك القضايا، تجمعهما وجهات النظر المنسجمة والمصالح والتهديدات المشتركة ومجموعة بريكس الاقتصادية الصاعدة، مقابل الأطراف الأخرى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
ومن جديد تعود الإنسانية إلى حرب باردة بطريقة أو بأخرى.
تبنت روسيا والصين وجهة نظر معينة عنوانها عالم متعدد الأقطاب يسوده التعاون والمصالح المشتركة ورفض انفراد قوة بعينها بعجلة قيادة العالم.
فى حين أصرت الولايات المتحدة على عنادها الأعمى وغير العاقل وظلت تصارع للإطاحة بأية فرصة لقطب منافس إنكارا للتطورات التى حدثت، وتملكتها وجهة نظر غير رشيدة تقول لازال بإمكانها البقاء إلى الأبد كقطب أوحد يجلس وحده على عجلة قيادة العالم.
أفلس العقل الأمريكى فلم يعد قادرا على التعايش مع متغيرات العصر، ولم يعد يرى إلا نهاية التاريخ عقيدة سياسية لا بديل عنها.
لكن تلك المتغيرات أجبرت أمريكا أخيرا على عمل تدخل جراحى مؤلم لسياستها الخارجية تحت عنوان التوجه شرقا، حيث تكون الصين كمصدر رئيسى للتهديد هى الأولوية التى تتشكل فى إطارها منظومة اهتمامات ومحددات وعلاقات وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
على الصعيد الأوروبى فالأمر مختلف على الرغم أن أوروبا لا ترى الصين عدوا بل ترى أن روسيا هى مصدر التهديد الرئيسى، إلا أن ذلك لم يحل دون التعاون وتوقيع الاتفاقات الاقتصادية خاصة فى مجال الطاقة، فروسيا هى المصدر الرئيسى للغاز إلى أوروبا مما يجعلها تستحوذ على مساحة معتبرة من محددات القرار الأوروبى خاصة ألمانيا، وذلك على عكس المحددات الجديدة للقرار الأمريكى، حيث لم تعد الولايات المتحدة فى حاجة إلى الطاقة كما كانت من قبل.
وبعد عقود طويلة من الانسجام الأوروبى الغربى الأمريكى، بدأت الشقوق تزحف ببطء ولكن بثبات نحو تلك الجدران العجوز التى لطالما تحصن بها المعسكر الغربى ضد رياح الشرق العاتية، وإحالتها إلى بيت عائلى دب التوتر بين أفراده وأسدل الشك ستاره على أعين أبنائه فلم يعودوا يرون علاقاتهم ببعضهم البعض بعين الأمس مستقرة الجفون.
فنتيجة لاختلاف محددات القرار الأمريكى عن الأوروبى علاوة على اختلاف الأولويات بين الطرفين وهوية مصدر التهديد، وما اعتبرته أوروبا قرارات أمريكية انفرادية لا تتسق والتنسيق المفترض بين الحلفاء تجلت فى أوضح صورها فى الانسحاب الأمريكى المفاجئ من أفغانستان وصفقة الغواصات الأسترالية والتى وصفتها فرنسا بطعنة فى الظهر، بدأ الاتحاد الأوروبى يفقد الثقة فى الولايات المتحدة ويبحث عن مصالحه بشكل منفرد أيضا.
الرئيس الروسى بوتين وما عرف عنه من انتهازية واصطياد فى المياه العكرة يدرك ذلك كما يدرك تقلص هامش المناورة أمام أوروبا للفكاك من الأنياب الروسية، وقد رأى أن اللحظة مواتية للهجوم على غزالة يعرف أن راعيها لن يفعل الكثير لحماية خرافه
الراعى الأمريكى غير المستعد لكلفة جولة صراعية جديدة مع روسيا فى الوقت الذى يخوض فيه صراعا اشد ضراوة مع الصين، والراعى الأوروبى الظمآن إلى الغاز الروسى وغير القادرعلى الهجوم منفردا.
وهذه هى اللحظة الزمنية التى تحدث فيها أزمة أوكرانيا الأخيرة.
وبعد استعراض تطور النظام الدولى منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اللحظة الآنية نعيد قراءة الأزمة الأوكرانية اليوم.
فى أزمة الكاريبى، كان السياق الزمنى مختلفا حيث كانت القواعد متفق عليها ومرضى عنها.
أما الآن فنعيش حالة سيولة دولية حيث القواعد لازالت تتشكل، وحيث نعيش صراع ما قبل الاتفاق.
أيضا كانت التكتلات واضحة كتلة شرقية سوفيتية شيوعية مقابل كتلة غربية أمريكية ليبرالية.
أما الآن فلا نعيش حربا على الأفكار،ولا تصارع روسيا وحدها بل تقف بجانبها الصين ولا تتزعم كتلة معينة ولا الغرب منسجما بل تتشابك وتتداخل العلاقات بين التكتلات بالشكل الذى يصعب فيه حسم الأمور.
أيضا فى أزمة الكاريبى، العامل الحاسم الذى أنهى الموقف هو التكافؤ بين القطبين، مما دفعهما إلى تسوية الأمر أما الآن فهناك اختلال فلا زالت الولايات المتحدة بالحسابات الاقتصادية والعسكرية هى القوة العظمى الأولى.
ومنطلق الصراع هو طرف يريد البقاء منفردا، وأطراف تريد الفوز بما تراه عادلا من مساحة النفوذ الدولى، والطرف الأول يعيق الآخرين لأنه فى المرحلة التالية سيكون الأضعف، والطرف المناوئ يريد الصعود إلى التوازن مع الآخر ليردعه والجميع يشعر بحالة عميقة من عدم الرضا والتهديد الوجودى ومن ثم فإن هذا الاختلال والمنافسة سيئة النوايا تعمل على تغذية الصراع وإبقاء النارموقدة.
أما الملمح الأخطر للاختلافات الكبيرة بين الأزمتين هو حالة الإنهاك السياسى والشيخوخة التى تعانى منها الآن الولايات المتحدة فى الوقت الذى أضحت فيه روسيا أكثر شبابا.
لقد أفرط الأمريكيون كثيرا فى استعمال قوتهم السياسية والعسكرية خاصة أثناء تفردهم بقيادة العالم، دون احتساب عاقل لثمن التكلفة حتى خارت قواهم، وما كان صعودهم للتفرد إلا بداية التدهور.
وأصبحت الولايات المتحدة أسدا عجوزا لايقوى على مهاجمة الصين وروسيا معا فتجرأ عليها الخصوم وغضب منها الحلفاء.
أخيرا تكشف أوكرانيا عبر أزامتها المتكررة عن ما هو أكثر عمقا مما يتحمله هذا البلد الصغير وقد بات صندوق رسائل تتبادلها الأطراف الدولية وتسطر بها أحرفا فى ملامح النظام الدولى الجديد.
أما اللقطة الأبرز هى الأمر الواقع الذى تفرضه روسيا ومن خلفها الصين على الجميع وهما يقاتلان أمريكا الجديدة، أمريكا وقد لانت أنيابها.