هل لو حاول رجل أو عشرة أو حتى مائة رجل، زحزحة مبنىً راسخًا، يضرب بأساساته في الأرض.. هل سينجحون؟!
بالتأكيد الإجابة "لا" قاطعة.. وهكذا إيمانك لو كان حقًا! وهكذا قناعاتك وثوابتك.. لو كنت صدقًا فاهمًا لها مقتنعًا بها.
لكن لِمً الإصرار على تصدير تلك الصورة التي تفيدنا بأن إيمانك محض مبنى يتكئ على عود كبريت؟! لِمَ تشعر أن إيمانك في خطر وأن ثوابتك تتأرجح كلما يتحدث أحدهم برأي يخصه وحده، أو حتى يخص كثيرين؟! لِمَ لا تقارعه الحجة بالحجة والرأي بالرأي دون شتم أو تعنيف؟!
الصوت العالي والبذاءة حجة الضعيف، أسلوب من لا حجة له. في الواقع، بتعمُّدِكَ اللجوء لتلك الأدوات العنيفة من التعبير أنت تُفصِح عنيفًا عن قلق يأكل داخلك، عن خطر يُحَدِّقُ بكيانك، بما تربيت عليه، بما كوَّن عقلك وعاطفتك، أما لو كنت بالفعل على يقين من "يقينك" وثابت على "ثوابتك"، فلِمَ الذعر إذًا؟!
حين أنجزت كتابي "أديان وطوائف مجهولة"، أذكر أن صديقة طلبت مني نسخة لقراءته، فوجَدَت أن الكتاب يبيِّن تشابهًا يصل حد التطابق بين الأساطير وما ورد في الأديان، وبين أديان الحضارات القديمة والأديان الإبراهيمية؛ مثل ما بين الميثرائية والمسيحية، وما بين الزرادشتية والإسلام، بين تكرار مثير لقصص الطوفان ما بين نوح وزيوس وزيوسودرا في الرواية السومرية، ولتشابهات تاريخ ميلاد المسيح (25 ديسمبر) مع حورس وأتيس وبوذا وديونيزوس وهيراقليس وكريشنا وزرادشت، وإنجابهم جميعًا من عذراوات، وقيام أتيس وكريشنا وحورس وميثرا وديونيزوس من بعد الموت، ومنهم من مات مصلوبًا كآتيس وميثرا، وتكرار لحوادث معراج إلى السماء؛ ففي الزرادشتية، "أرتافيراف نامك" عرج إلى السماء السابعة بصحبة رئيس الملائكة "سروش"، ليطلع على كل شيء فيها ويأتي قومه بنبأ، فجال من طبقة إلى أخرى، وترقى بالتدريج إلى أعلى فأعلى، وفي كتاب سِفر أخنوخ الثاني يحكي كيف أنه عرج إلى السماء السابعة، وهناك "أرجنه" الهندي الذي وصل إلى السماء، وقد شاهد قصر في بستان وشجرة تسمى "بكشجتي" هي المعادل لشجرة "طوبى" عند المسلمين، وفكرة المهدي المنتظر الذي سنجدها في الإسلام والمسيحية واليهودية وكذلك عند البوذيين.
وقد هرعت إليّ مذعورة مما قرأَت، وقالت لي بالحرف الواحد: "أنا خايفه على إيماني، الواحد متلصَّم".
أنا أحترم هذه الصديقة، فقد أقرَّت أمامي والأهم أمام نفسها إنها "متلصَّمة"، أي أن إيمانها غير راسخ! لقد اعترفت بما يخجل من أن يعترف به الغالبية. على الأقل حادثتني بالحسنى، فأنا لم أفعل شيئًا سوى نقل الحقائق الموجودة في الكتب والمراجع، ولم أخترع شيئًا، وربما راعت ما تقتضيه الصداقة، وربما ارتأت ألا تجادل في شيء لا تفقهه، وألا تدخل معي في نقاش تكون هي الخاسرة فيه. أعلم يقينًا أنني لو لم أكن صديقتها، لربما كانت قد لجأت للقناة الوحيدة المعروفة لمن هم في خندقها نفسه، ألا وهو شتمي ونعتي بأقذع الألفاظ، لكن ربما للصداقات حسابات أخرى.
وهنا أجدني أتساءل: هل هذا يُعدُّ إيمانًا حقيقيًّا؟! بل هل الله بحاجه لمثل هذا النوع من الإيمان المتلصَّم؟! وهل يعوزه الدفاع عن دينه بأحط الألفاظ، أم أنها أسوأ دعاية له ولدينه؟!" لمَ لَمْ تتفكَّر صديقتي في وجهة نظري التي أوضحتها في مقدمة الكتاب، وهو أن تلك التشابهات ذاتها تأكيد على المصدر الواحد والوحي الواحد، وليس تشكيكًا في الدين المُعتَنَق؟! لِمَ لَمْ تُصدِّق رغم أنها مسلمة "متدينة" كلام الله في كتابه: "ولقد أرسلنا رُسُلًا من قبلك منهم من قصصنا عليم ومنهم من لم نقصص عليك" وكذلك آية: "وما أرلاسلنا قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم"؟!
إن توسعة الرؤية بالإطلاع، يجعل نظرتنا للكون بكل ما فيه نظرة متسامُحة، كما يبعث في الروح ثراءً داخليًا وترفُّع عن سفاسف الكلام، والأهم تأكيد على الإيمان الذي سيكون في تلك الحالة فقط "إيمانًا حقيقيًّا"، وحينها ستهدأ نبرة الصوت، ويكون الرد بالحجة والمنطق، وليس بالإنفعال والصريخ.
"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". حقيقة لا تقبل الشك بما أن "هذا الكتاب لا ريب فيه". فهل تزايد على الله؟! على قاعدته الواضحة وضوح الشمس في كتابة؟ هل إيمان المُتشكِك سيزيدك إيمانًا، وهل كفره سينتقص منك؟ هل ستحاسب بدلًا منه؟ وهل يشغل الله إيمان أو عدم إيمان شخص ما؟ هل يتفقد كل حين عددهم؟
من حق كائنًا من كان أن يُنكر، كما أن من حقك أن تؤمن، من حقه أن يخامره الشك كبداية طريق ربما تصله بيقين ما، كما أن بالضرورة عليك أن تكون موقنًا مما هو معروف لديك بالضرورة والإرث والتلقين والحِفظ، من حقه أن يتبع منهجًا عقليًّا، كما أنه من حقك تمامًا أن تنتهج منهجًا نقليًّا. من حقكما الإختلاف، والإختلاف سنة الحياة، والنقاش والجدال شيء صحي والتفكُّرُ ضروري لبلوغ حكمة الله في الكون، لكن ليس من حق أحد أن يفرض رأيه ووجهة نظره وإيمانه على الآخر.
في الواقع من يحاول فرض منهجه هو الشخص "المتدين" الذي يرى في نفسه بالضرورة أفضلية على غير المتدين أو غير المؤمن، وهنا الإيمان ليس المقصود به الإيمان بدين ما، ولكن الإيمان بوجهة نظر الآخر! في الحقيقة لم نسمع عن علماني أو يساري يطالب بقتل من يقول بنكاح الميتة وزواج الطفلة ومفاخدة الرضيعة وشرب بول الإبل وبإباحة ضرب الزوجة، في حين نسمع ليلًا نهارًا عن طلب القصاص وإهدار الدم لمن يقول بوجهة نظر تُخضِع النص للتأويل بحسب مقتضيات الزمن الراهن والأوضاع المستجدة، أو بمن يجرؤ على إعمال عقله والقول بأن المعراج حدث بالروح لا بالجسد، أي أنه مجاز وليس واقع ماديّ. إن التكفير في مجتمعاتنا أصبح ثمنًا مُستحقًّا عن جريمة التفكير. نعم، التفكير جريمة رغم أن الله يكرر في كتابه: "ألا تتفكرون"؟!
إن فتح باب التكفير كفتح صندوق بندورة الحاوي لكل الشرور، وهو باب إن فُتِحَ فلن ينغلق. في يوم من الأيام كفَّر عبد الصبور شاهين نصر حامد أبو زيد بسبب كتاباته، وكانت الإتهامات التي كالها له هي ما استند عليها محامٍ إسلامي قام برفع قضية حسبه لتفريقه عن زوجته لأنه مرتد ولا يصح لمسلمة أن تتزوج من مرتد، فدارت الأيام وتم تكفيرعبد الصبور شاهين بعدها بست سنوات، وذلك بعد تأليفه لكتاب "أبي آدم..قصة الخلق بين الخيال والحقيقة". وكما قال عبد الصبور شاهين عن كتابات نصر حامد أبو زيد أنها "إيدز ثقافي"، قال علي جمعه عن كتاب عبد الصبور شاهين أنه "شذوذ فكري"!
إن تفسيري للكاتب والشاعرة والمثقف الذين يتشدقون بعلاقتهم مع الله ليلًا نهارًا على صفحات الفيسبوك وكأن قلوبهم ومنازلهم والمساجد التي تجاورهم لا تتسع لذلك، فيفتحون أعيننا على إتساعها جبرًا لنتفقد إيمانهم بشكل يومي، هم في الواقع يحاولون طمأنة أنفسهم قبل أي شيء على شدة إيمانهم وورعهم وتقواهم، إذ هم نتاج حقبات من القهر والإجبار على الفضيلة والنفاق الديني الممتد في كل قنوات الإعلام، إنهم تجسيد حقيقي لمتلازمة ستوكهولم، من يتشدق بالحرية ويكتب عنها ويحلم بها، هو أول من يحاربها، هو ما تنزعج عينيه لرؤية ضوءها الواضح المبهر، يدافعون عن دين الله.. هكذا يؤمنون، ولا يعلمون أن إبراهيم عيسى اليوم وهم غدًا مدانون بأي تهمة وعن أي رأي، محاصرة أعناقهم بالحبل ذاته الذي يلفونه حول أعناق من جروء على التفكير وأعلن رأيه بكل حرية وسط أناس تعشق العبودية وتستعذبها.