هذا الصباح لم يؤذني أحدا، وهذا حدث عظيم لو تعلمون، العادي هو التربص والخوف من صوت جرس التليفون وتوقع الأذى في كل خطوة، من درج سلالم منزلك هابطا حتى عودتك وشد الترباس الداخلي لباب الشقة، لحظتها تتنفس في هدوء وقد تبتسم في مكر لأنك نجحت في الإفلات من مصيدة الواقع الصعب الذي تدور فيه يوميا.
القارئ غير المدرب لو مر مرور الكرام على عناوين صفحات الحوادث بالجرائد أو سكشن الجريمة في المواقع الإلكترونية سوف يقفل عائدا ليكتب مقدمة لمقال أكثر احباطا من تلك المقدمة التي صدرت بها مقالي هذا، الأسبوع الماضي جثة متحللة في سيارة وعريس دمر كرامة عروسته وهي ترتدي فستان الزفاف في الأسبوع الماضي سرقني صاحب محل بقالة بالغش في الميزان.. أتأمل مؤشر الميزان اللص، وأتابع سكين الجبن الراقد في هدوء بجوار يد البائع لاستلم بضاعتي وانصرف في هدوء.
مئات التفاصيل تدور كل لحظة وأنت عاجز عن الابتسام والتصالح، سيقول البعض بأن ما نراه هو دليل على حيوية المجتمع وأن مؤشرات الجريمة في أوروبا تتجاوز ما نراه في بلادنا، ربما تكون أرقام المؤشرات حقيقية ولكنهم يقولون في الصين أن الأرقام أيضا من الممكن لها أن تكذب، وهذا ما يجعلني أنظر للداخل المصري بالمحبة التي أدمنتها قبل 50 عاما.. فما الذي جرى للمصريين حسب مصطلح عالم اجتماع مصري.
كمية العنف والتوتر والغضب وردود الأفعال المبالغ فيها، الحيلة والمكر والكذب والنصب والسرقة والاعتداء على حقوق الغير، كل هذا صار القاعدة وغير ذلك هو الغريب، لم أعد مقتنعا بأن الاقتصاد يمكن له أن يؤسس أخلاقيات راقية وأن الادعاء بأن الفقر ينتج سلوكيات منحطة تصل إلى الجريمة، هذا قول خفيف لأن الحزمة متكاملة ليس كلها اقتصاد.. هناك أسباب أخرى كثيرة ومتنوعة حتى أننا صرنا في أمس الحاجة إلى علماء اجتماع وعلم نفس أكثر من حاجتنا لاقتصاديين يخبروننا بمؤشر البورصة.
البورصة هنا على الأرض من عتبة باب شقتي في الدور الثالث بالإسماعيلية حتى رجوعي اليها، هل أمضيت وقتا طيبا في الخارج؟ الإجابة على هذا السؤال هي المفتاح لصعود وهبوط مؤشرات البورصة في سوق المال، لن أتعجل وأشير بإصبع الاتهام إلى الإنترنت ووسائل التواصل ولن أستسهل وأشير إلى الخطاب الإعلامي في الفضائيات وخواء مدارس التعليم الأساسي، الأمر صار أكثر تعقيدا من العناوين التي حفظناها كمسببات للتغيير السلبي في المجتمع لذلك لا بد من دراسات منهجية علمية تغوص في عالم التوكتوك وتراقب السايس بلطجي الطريق العام وتتأمل مسيرة المخدرات من المنبع إلى المصب، تقرأ الأموال السوداء وتفكك الطبقات وانهيار مؤسسات وصعود الفهلوة.
لم يعد الزحام متهما كما أفهمونا في السابق، ولا معدلات التفكك الأسري بالطلاق أو الوفاة، لم تعد الثوابت شاهد على شيء، هناك خلل أخاف أن أسميه بالخلل الجيني ولكنه واقع يقترب من الحقيقة، العيون المفتوحة عن اخرها لاصطياد الآخر هي عيون تستحق خزقها، بناء الإنسان يحتاج إلى عقود وربما يحتاج إلى أجيال وعندما نتكلم عن الإنسان فنحن لا نقصد القشرة التي ترتدي الكرافت وتبتسم في المؤتمرات رغم حاجتهم أيضا إلى التأهيل.. نحن نقصد بالإنسان من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها لنتفاهم مع مختلف الثقافات، التبسيط المخل له نتائج كارثية وصناعة الوهم بأن كله تمام سوف يأكل الأخضر واليابس، نحن في حاجة للعلم والدراسة والبحث، وقتها قد نعرف متى ترعرع في وادينا نبات الخوف البلطجة.