كثيرا ما تعجز الكلمات عن وصف الواقع الاجتماعي المؤلم الذي تعيشه مئات الآلاف من الأسر بسبب التفشي المريع لظاهرة الطلاق، والتي يدفع فاتورتها الدامية أطفال أبرياء لا ذنب لهم إلا أن أقدارهم ألقت بهم في أتون نار حامية تلتهم كل ما في طريقها، فيكاد لا يمر يوم إلا ونسمع بجريمة تعذيب تصل إلى حد القتل يرتكبها "جوز أم" نذل تجرد من أدنى مشاعر الإنسانية، أو "مرات أب" تملكت منها غريزة التشفي والانتقام.
فيوم بعيد يوم.. يتأكد للقاصي والداني الأهمية القصوي للحفاظ علي وحدة وكيان الأسرة وضرورة عدم خروج روائح وتبعات المشاكل والمنغصات عن جدران غرفة النوم، فبنظرة عابرة ستكشف ان جميع أطراف النزاعات الأسرية المدمرة خاسرون بداية من الزوج الذي سيهجر "العش الهادئ" الذي ألفه والزوجة التي سكن اليها، ربما الي هاوية تعصف بشخصيته او ندم يمزق داخله.
اما الزوجة المنفصلة فخسارتها دائما افدح، فنظرة المجتمع الشرقي خصوصا للمرأة المطلقة تتسم بالوجوم وطرح آلاف التفسيرات الخاطئة، فيكتب عليها ان تقضي باقي عمرها حبيسة الشائعات والتحرشات والمحاولات المتدنية لاقامة علاقات غير مشروعة، أو علي احسن الظن ستفوز بزوج ارمل يعول أبناء غالبا ما يكونوا احوج الي دار حضانة منها الي زوجة اب مكروهة بالفطرة والغريزة، او مطلق عابث يبحث عن معذبة جديدة ينفث فيها رجولته التي ازهقت سابقتها.
والضحايا الضائعون في حوادث انهيار العلاقات الزواجية ـ وهم اساس قضيتنا ـ الأطفال الذين يترنحون بين زوج ام قاس لا يعترف بطفولة او حتي حقوق انسانية لغير ابنائه.. فكل الرعاية والانفاق تذهب علي كأس من فضة لهم في حين يكيل جميع صنوف الحرمان والخشونة والتعذيب لأبناء الزوجة، والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة لزوجة أب تتفنن في تشويه براءتهم.
** والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا تغيرت ملامح الأسرة وإرادتها القوية في المحافظة على كيانها وعلى النسيج الاجتماعي كضمانة أساسية لاستمراريتها ؟.
وإذا كنا سنتحدث عن الأسرة فمن الضروري أن نتحدث عن مؤسسيها "الزوج والزوجة" وكيف تحولت في المجتمع بعض البيوت إلى منازل آيلة للسقوط.. تحت سقفها أفراد لا تجمعهم العاطفة أو الود انما مصلحة البقاء في وضع اجتماعي مقبول لدى المجتمع في جو من العزلة والانفصال الروحي.
كما إن التفكك الأسري وعدم الترابط ينعكسان بشكل سلبي على الأطفال في الأسرة، وتساهم هذه الحالة في خروج جيل مفكك نظرًا لمعاناة أطفاله، وقد أجرى الباحثون بجامعة بنسلفانيا الأمريكية دراسة ميدانية شملت حوالي مائتي أسرة تضم أطفالًا ما بين الصف الأول والرابع الابتدائي لتقييم مدى تأثير تصرف الوالدين وعلاقاتهم الأسرية على نمو الطفل، حيث وجد الباحثون أن ضغوط العمل والمشكلات الأسرية وما ينجم عنها من أزمات نفسية للأطفال، يمكن أن تعرقل وسائل التواصل النفسي بين الأبوين وأطفالهم.
وهؤلاء الأطفال الذين ينشؤون في مثل هذا المناخ ينطوون في سلوكهم على انحراف كامن، حين يجدوا الفرصة سانحة في أي زمان أو مكان يعبرون عن مكنونات أنفسهم عبر سلوكيات وممارسات شاذة.
ولا يقف حجم المأساة عند ذلك الحد ، بل حدد علماء الاجتماع بعض المخاطر لانهيار العلاقات الزواجية من بينها:
1- خروج جيل حاقد على المجتمع لفقدان الرعاية منه.
2- وجود أفراد متشردين في المجتمع.
3- انتشار حوادث السرقة والاحتيال والنصب والاغتصاب والقتل.
4- تفشي الرذيلة في المجتمع.
5- زعزعة الأمن والاستقرار.
6- عدم تماسك المجتمع في الملمات.
7- عدم الشعور بالمسؤولية.
8- انحطاط أخلاقيات المجتمع.
9- عدم احترام سلوك وعادات وأعراف المجتمع.
10- تدهور سمعة الأمة وهيبتها.
وليس بعيدًا عن كل ما سبق.. فإن التغيرات العالمية "الموتورة" وغزو الثقافات الخارجية أحدثت تغيرًا في المجتمع بتحديث قيمه وظهر التنافس بين أفراده عامة وبين الأزواج بشكل خاص.
مشكلاتنا العائلية وأسبابها:
تنشأ المشاكل في كل البيوت نتيجة احتكاك الأفراد.. وهي غالبًا تكسر حدة الملل والروتين وتنشط العلاقات الإنسانية إذا ما تعاملنا معها بإيجابية، ولكن هناك بيوت تصرخ وأخرى باردة وصامتة لماذا؟ يمكن تقسيم أسباب المشاكل العائلية إلى ثلاثة محاور:
أ- من وجهة نظر الرجل:
1- عدم تقدير الزوجة لأعباء زوجها وواجباته الاجتماعية "طبيعة عمله".
2- عدم مراعاة الزوجة لأوضاع زوجها المالية.
3- اختلاف ميول الزوجة ورغباتها عن الزوج.
4- إهمال المرأة لشؤون الأسرة.
ب- من وجهة نظر المرأة:
1- تدخل الزوج في الشؤون البيتية أكثر مما ينبغي.
2- بقاء الزوج فترة طويلة خارج المنزل.
3- رغبة الزوج في الانعزال عن الآخرين أو الاختلاط في المجتمع المحيط.
4- النظرة الدونية للمرأة.
5- التلفظ أمام الأطفال بكلمات غير لائقة.
6- انخفاض المستوى الثقافي والاجتماعي للزوج مقارنة بالزوجة.
7- عدم إعطاء الزوجة الحرية أو الثقة في تصرفاتها الشخصية.
8- عدم تعاون الزوج في توفيق الزوجة بين العمل ومتطلبات الأسرة.
ج- أسباب مشتركة:
تحكيم العاطفة أو المصلحة المادية عند اختيار الزوج أو الزوجة، سوء فهم كل من الزوجين لطباع الآخر، الاختلاف المستمر في الآراء ووجهات النظر، المشكلات الجنسية والعاطفية، تباين أسلوب كل منهما في تربية الأبناء، المسائل المادية، كذب أحدهما على الآخر، تدخل أهل الزوج أو الزوجة في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالأسرة، العناد، الغيرة الشديدة، الأنانية، فارق العمر، انعدام الحوار، الرغبة في إنجاب الكثير من الأبناء، عدم تحمل المسؤولية، عدم فهم كل طرف لشخصية الآخر، افشاء أسرار البيت، انفاق المال في غير محله، العمل المرهق خارج المنزل، التسلط، الخيانة.
هذه الأسباب وغيرها هي مربط الفرس حين يعيها الزوجان، ولكن السؤال من الذي يمكن أن يتدخل لتوعية قطبي الأسرة بالمشاكل والحلول، ففي ظل هذه التغيرات التي حدثت للأسرة فإننا لا نجد نشاطًا ملموسًا من مؤسسات المجتمع للاهتمام بها، فالمراكز الأسرية الحكومية المنوطة بهذا الدور مفقودة لدينا.
إن مشاكل الأسرة لدينا تتفاقم وقد تبدلت نوعية القضايا التي تطرح في المحاكم وكذلك كيفية صدور الأحكام.. بل لقد تغيرت مفاهيم الناس نحو صياغة العلاقات الإنسانية (في الأسرة أو مجال العمل).
وعند سؤال أي قاض اليوم فإنه سيتحدث بما يسمعه ويراه كل يوم من مشاكل بين الزوجين كان بالإمكان أن تمر بقنوات أخرى لحلها قبل الوصول إلى القضاء ووقوف الزوجين أمام المحكمة.
كيف نحقق التوازن؟
لا بد للمؤسسات المجتمعية من النهوض بوعي الأفراد نحو تأكيد قيم التعاون والمحبة والمودة والسكن ومعرفة الأمور النفسية الداخلية التي تدفع الناس إلى التنافس مما يساهم في ضبط النفس والمشكلات والصراع، ضمن الحدود المقبولة الإيجابية والتي تساعد على البناء والازدهار، ولا بد لوزارة التضامن أن تلتفت إلى إعداد برامج تعمل على ترقية الأسرة وتنميتها عن طريق تمكين الأسرة في عمومها من العيش في مصالحة نفسية واجتماعية، ويبقى دورها مهما في إنشاء وحدات إرشاد أسري في الأحياء وإن كانت مثلًا تابعة للوحدات الصحية إلا أن دورها ليس صحيًا.
كل هذا بخلاف التفاعل الروحي بين أفراد الأسرة ومحاولة حل المشكلات التي تواجههم عبر مراكز الدعم والمساعدة والتأهيل النفسي، وقبل هذا وذاك اعداد برامج عملية تطرق كل بيت لتأهيل المقبلين على الزواج والتأكد من أهليتهم لهذه المسئولية حتى اذا وصلنا لوضع ضوابط تنظم عملية الإنجاب.. فهذا أفضل من التسرع بإخراج أجيال معقدة نفسيا وناقمة على من حولها، أو الارتماء في حضن "جوز أم نذل بدرجة قاتل".. أو "مرات أب" مجردة من اي مشاعر إنسانية.