ما ميز الدورة الـ 28 لمهرجان المسرح التجريبي والمعاصر التي انتهت فعالياتها منذ أسابيع قليلة عن باقي الدورات السابقة هو استحداث إدارة المهرجان، مسابقة لنوادي المسرح اشترك خلالها 9 عروض من محافظات مختلفة، تم تقييمهم من خلال لجنة التحكيم التي ضمت المخرج أحمد طه، والفنان شادي الدالي، والمخرج فادي نشأت، وأعلن أحمد طه فوز العرض المسرحي «لا زلنا هنا» للمخرج رامي محمد، بجائزة أحسن عرض في مهرجان نادي المسرح التجريبي؛ وتم توزيع جوائز المهرجان بحضور الدكتور جمال ياقوت رئيس المهرجان، والمخرج الكبير خالد جلال نائبا عن وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم؛ وتلتقي «البوابة نيوز» المخرج المسرحي رامي محمد، في حوار حول تفاصيل مشاركته في المهرجان التجريبي، وكواليس صناعة النجاح في عرضه المسرحي الأول...
كيف تحب أن تقدم نفسك؟
صحيح إنني جمعتُ في عرض «لا زلنا هنا» بين التأليف والإخراج، إلا إنني لا يمكن أن أصف نفسي أنني مؤلف بأي حال من الأحوال، وأرى إنه الواقعي والمنطقي تصنيفي ضمن المخرجين. ومع ذلك؛ أشعر أنني أدين بالفضل الأكبر في نشأتي كمخرج مسرحي إلى الأدب. حيث حرصتُ منذ بداية تعييني في قصر ثقافة بني سويف على حضور جلسات نادي أدب بني سويف، ما ساهم في رسم شخصيتي، وتوجيهي إلى قراءة العديد من شعراء الحداثة مثل: سركون بولص، لوترايمون، بودلير. وهكذا صرتُ أكتشف لدي قدرة خاصة على معالجة الصورة الشعرية إلى صورة موازية ملموسة مجسدة. حيث ألتقط تلك الصور الأدبية داخل رأسي وأحاول ترجمتها إلى صورة مسرحية. وكنت أحب قراءة النصوص المسرحية، لأنه كان يتملكني شغف للتمثيل. وهكذا يمكنك القول إنني دخلت إلى المسرح من بوابة الأدب.
كيف فكرت في «لا زلنا هنا» لأول مرة؟
لستُ شاعرًا، ولكن أفكاري يتم توالدها عن طريق الشعر. وتوقفت خلال قراءة أعمال محمود درويش عند قوله في الجدارية: لا زلنا هنا حتى وإن انفصل الزمان عن المكان. ووجدتُ أن تيمة الزمان والمكان مسألة مغرية ومحرضة على التفكير والتأمل، وبحكم دراستي للعلوم، وجدتُ نفسي أفكر في الزمن بطريقة مختلفة، أي أنه يمكن للزمن أن يصبح مكانًا أيضًا، فالزمان بالنسبة للقانون الأرضي هو الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ربما في مجرة أخرى، يصبح تعريف الزمان تعريفًا ماديًا، ربما يكون الزمن جبلًا أو بحيرة.
هل يمكنك أن تصنف نفسك مخرجا صاحب فلسفة؟
اعتمدت في مسرحية «لا زلنا هنا» الفلسفة الرواقية، والمقصود بها الاهتمام بالقضايا الوجودية، وأضفتُ لها بعدًا من الميثولوجيا، والصوفية، واستخدمت صورا شائعة في الميثولوجيا الدينية، مثل صورة الطفل الذي يمثل كيوبيد، العجوز الذي يعزف على آلته الموسيقية أشبه بزيوس. مشهد الشاب المصلوب في اللوحة الثانية، وهو ترجمة بصرية لمحمود درويش حينما قال: "ومثلما سار المسيح سرتُ في رؤياي، ولكني نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلو ولا أبشر بالقيامة". وما أقصده أن الفلسفة هي مبدأ أصول الحكمة، فإذا أردنا أن نصف عملا فنيا بالحكمة والإجادة، هذا يعني أنه اتبع نهجا فلسفيا كي يصبح على هذه الصورة الحكيمة.
متى فكرت في كتابة أول عمل مسرحي؟
بعد 2011م، صرتُ ألتقي العديد من أطياف المجتمع، من مثقفين، وسياسيين، وأدباء، ورجال دين معتدلين، ومتطرفين، وبدأت أشعر أن الحياة صار بها حركة أكثر، وزخمًا أكثر. صرت أشعر إنني كـ «رامي» أحتاجُ إلى الفلسفة كي أفهمَ ما يحدثُ حولي، وشعرتُ أن «لا زلنا هنا» تلح علي كي أكتبها، وبدأت الكتابة فعلا بعد ثورة 30 يونيو 2013م، حيث بدأت الصورة تتضح لدي في أمور كثيرة. وهكذا تم تقديم عرض «لا زلنا هنا» لأول مرة في نسخة بدائية وبجهود ذاتية في عام 2016م، ولكنه كان مختلفا عن نسخته الأخيرة التي نالت الجائزة الأولى في التجريبي.
أبرز المحطات في تكوين شخصيتك الفنية؟
لقد كان استشهاد أخي مازن محمد قرني، في حادثة حريق قصر ثقافة بني سويف، سببا مباشرًا في تعييني في هيئة قصور الثقافة. لم يخطر في بالي أن أكون فنانا مسرحيا، فلم تكن علاقتي بالمسرح تتعدى بعض الأدوار التي كنت أؤديها مع مازن -رحمه الله- في المنزل على سبيل اللعب.. كان مازن ممثلا واعدًا، بشهادة كل من رآه على خشبة المسرح.
الذين تركوا بصمتهم علي ليسوا فقط الفنانين، وإنما المعلم الحقيقي هو الذي استطاع أن يستوعب اختلافي، وتمردي على الشكل التقليدي للحياة، وكان يقف بجانبي ويدعمني بشكل كان يدهشني انا شخصيا في كل مرة، إنه والدي، أطال الله في عمره.
هل تدين إلى معلم أو موجه مباشر؟
تعرفت في بداية تعييني في هيئة قصور الثقافة؛ إلى المخرج الكبير سمير الخليلي، لقد وضع يده على طريقة تفكيري التي تقفز حدود المألوف والمعتاد، كنت دائما أتساءل عن كل شيء، وفي أي شيء، ولم يكن كثيرون يتفهمونني، فقط سمير الخليلي كان يقول لي لابد أن نفكر في كل شيء، لابد ألا نغلق عقولنا، لابد أن نبحث عن الجديد.. لقد كان بإمكانه أن يضيف لي الكثير من المعرفة، والخبرات الفنية والعملية، ولذلك أدينُ له بالكثير.
هل أضاف عملك في هيئة قصور الثقافة إلى شخصيتك الفنية؟
منظومة العمل الروتيني بشكل عام مازال ينقصها الكثير كي تستوعب شخصية الفنان، واحتياجاته، وأن توفر له بيئة العمل والإبداع اللازمة، فالكثير من أفكارك الإبداعية تكتشف أن لا قيمة لها عندما تصطدم بجدار الروتين الحكومي. إضافة إلى أن أغلب الإنتاج المسرحي، يهتم بالكم، وليس بالكيف، لدرجة أن الجمهور المستهدف من إنتاج أية مسرحية يتم نسيانه أو إسقاطه من المعادلة، والنتيجة أنك تجد مسرحيات داخل قصور الثقافة، تتجه بالأساس إلى لجان التحكيم، ولا تحقق القدر المنشود من التواصل مع الجمهور. ولكن هناك محاولات شهدتها من الأخوين مبارك ومحمد رجب أثناء عملي في إهناسيا كانت تحاول أن تحقق المعادلة الصعبة، ولكن رغم أنني أدين لهذه المحاولات في اختلافها وتجريبيتها إلا إنها تجارب ظلمت نفسها لأنها لم تستمر.
يتهمك البعض أنك تقدم عروضًا نخبوية، لا يفهمها أي أحد، بم تفسر؟
يتعرض جمهور قصور الثقافة إلى عدد كبير من التجارب النمطية، ولذلك يعد التجريب أمرًا مريبا بعض الشيء. ولكن الجمهور بكل شرائحه ليس لديه موقفًا مسبقا من أي نوع فني. كل ما في الأمر أنه طالما المنتج الفني متكامل بذاته، فسيجد طوال الوقت من يتواصل معه. ولذلك اعتمدتُ في لا زلنا هنا على جماليات الصورة المسرحية والرقص التعبيري، ما يجعل العرض يترك أثره بالأساس في لاوعي المشاهد، حتى إذا لم يحقق التواصل المباشر، لكن هناك غير مباشرة بين المشاهد والعرض أزعم أنها متحققة بامتياز. ولقد تم تقديم العرض في أكثر من ليلة عرض، وفي كل مرة كان الجمهور متزايدًا، وفي كل مرة كان التفاعل كبيرا ومشجعا للغاية.
إذا لم يتواصل المتفرج مع عرضك، فعلى من تقع المسؤلية؟
على المخرج وحده تقع مسؤولية استيعاب والتواصل مع أي عمل فني، حتى لو أن هذا المشاهد من أقل أطياف الوعي، أو أنه جاء بغرض عدم التواصل مع العرض فإذا لم يتواصل مع العرض، فذلك مسؤولية المخرج. إن عملية تواصل المتلقي مع العمل الفني، مهما كان ذلك العمل تجريبيا أو غير معتادا، مسؤولية المخرج تماما. وأرى أن المتفرج مثل الممثل تماما، كلاهما مسؤولية المخرج.
كيف ترى إقبال الجماهير على الأعمال الفنية غير الهادفة؟
أتساءل كثيرًا حول هذا الأمر: هل يقبل الجمهور على الأعمال غير الهادفة فعلا؟ هل يقبل الجمهور على الأعمال الكوميدية فقط؟ في رأيي أن الجمهور يقبل على المنتج جيد الصنع، مشكلة الأعمال التجارية التي نصفها بأنها تافهة، أنها مصنوعة جيدا، يشارك فيها نجوم كبار، تدعمها خطط تسويقية، وشركات دعائية كبرى، ولذلك هو منتج يتم تقديمه بطريقة جيدة طوال الوقت. بعكس الجانب الآخر من المسرحيات التي ربما تحتوي على أفكار وأنماط إبداعية عظيمة لكن يتم إهمالها وتجاهلها بما لا تستحق.
ما هي العوائق التي واجهتك في طريق الوصول للتجريبي؟
أبلغتني إدارة المهرجان التجريبي بالموافقة على تصعيد عرض لا زلنا هنا ضمن منافسات نوادي المسرح التجريبي، في يوم 1 ديسمبر، المدهش في الأمر إنه بعدما أنهى معي المكالمة الدكتور جمال ياقوت؛ فوجئت أنه لا يوجد أمامي سوى 14 يومًا فقط ليكون العرض جاهزًا للعرض أمام لجنة التحكيم. لدرجة إنني فكرت أن أعتذر عن المشاركة بالفعل، فأنا لم أنتج عروضا كثيرة من قبل، وأرى إنني أحتاج إلى وقت طويل للتحضير، ولكنني فوجئت بصديقي الفنان وليد حسين وأحد أبطال العرض؛ يدفعني إلى داخل المسرح، وهكذا انقطعت علاقتي عن كل المشاكل الإدارية التي ساهم زملائي في الشؤون الفنية في قصر ثقافة بني سويف في حلها، وفوجئت بدعم رهيب من الإدارة العامة للمسرح ممثلة في جهود المهندس محمد جابر، كي يخرج العرض في أفضل صورة.
ما هو المشروع التجريبي القادم؟
في الحقيقة لا يوجد ما يسمى بأن هذا العرض تجريبي، وذلك العرض غير تجريبي. والنجاح ليس بالدراسة الأكاديمية، ولا بكثرة الإنتاج، إنما صناعة عمل فني متقن يعتمد على كثرة التحضير. لا زلنا هنا على سبيل المثال هي نتاج 6 سنوات من التحضير، وبالتالي عند تنفيذها على المسرح لم أشعر بأية صعوبة. أعمل في الفترة القادمة على رواية جاز لايتنج، ولا أعلم كم ستستغرق من التحضير.
هل كان رامي في حاجة إلى جائزة؟
الأدق القول إن التجربة بكافة المشاركين فيها كانت في حاجة إلى دفقة من الضوء. وبالنسبة لي فقد كان المهرجان التجريبي من أكثر المهرجانات التي كنت مهتما بها، ولم يكن يخطر لي في بال أن أفوز بجائزته أو أشارك ضمن منافساته، فالجائزة هنا هي مجهود فنانين مخلصين حقيقين وقفوا في مساندة العرض منذ كان مجرد فكرة في ذهني، بداية من وليد حسين، وجويد نجم الدين، ومحمد رجب، وعبد الرحمن مجدي، ماريهان مصطفى، والكيروجرافر المتميز محمد عبد الصبور. ويمكن القول إن عرض «لا زلنا هنا» تم تقديمه في مكانه الصحيح تماما؛ وهو المهرجان التجريبي.