سرعان ما خمد بركان الفيلم السنيمائى "أصحاب ولا أعز" وكأن حمم التخوين والتكفير بكل القيم والسب والقذف لم تقصف؛ كل شيء هدأ وكأن عاصفة لم تمر من هنا.
أغلب نشطاء مواقع التواصل الاجتماعى من المواطنين العاديين الذين حولوا حساباتهم إلى فوهات بركان غضب تجاه الفيلم وصناعه لم يشاهدوا هذا العمل السنيمائى؛ تمامًا كما أن أغلب الذين كفّروا مفكرين وباحثين وعلماء بحجم فرج فودة ونصر حامد أبو زيد لم يطلعوا حتى على أغلفة كتبهم.
ولو ترك الأمر لأهل الاختصاص من النقاد الفنيين لما ذاع صيت "أصحاب ولا أعز" من ناحية ولأفسح المجال أمام العدد الضئيل من الجمهور المحب للسنيما لقراءة هادئة ونقدية لعناصره الفنية؛ والأهم من ذلك كله كانت ستتوفر فرصة لفتح نقاش موضوعى يستفيد منه صناع الفيلم وكل مهتم بشأن الثقافة والفن وعموم المجتمع بما سيوفره ذلك النقاش من أفكار وقضايا بعضها فنى وبعضها ثقافى وبعضها اجتماعى تتحاور فيما بينها وليس من المهم أن تصل إلى اتفاق، أو إلى انتصار فكرة على أخرى، وإنما الأهم أن ذلك الحوار كان سيطرح المزيد من التساؤلات التى ستظل عالقة فى أذهان كل المشتغلين بصناعة الثقافة والفن والجمهور المستقبل بما يزيد مستوى وعى الجميع بينما هو يبدع أو يشاهد ويقرأ.
اللافت أن الهجوم على الفيلم صاحبه ما أعتبره موجة هيستيرية ليس للدفاع عن قيم المجتمع وإنما لتقديم مجتمعنا وكأنه المدينة الفاضلة، وكأن صحافتنا لم تطالعنا بجرائم أخلاقية تقشعر لها الأبدان، وكأننا مجتمع يقاوم كل أشكال الفساد وخرج فى تظاهرات عارمة ترفض صدور فتوى شرعية تجيز دفع الرشوة للموظف المتعنت للحصول على الحق المؤجل أو المرهون بضمير الموظف.
قبل نحو عشرين عامًا نالت من إحدى المتهمات فى قضية المبيدات الزراعية المسرطنة شائعة وجود علاقة غير شرعية ربطتها مع مسئول كبير؛ وخرجت بتصريح صحفي حينها تقول فيه (ربما أكون مرتشية لكنى لست منحرفة جنسيًا) هى تدرك تمامًا أن المجتمع قد يتسامح مع كونها مرتشية تسببت فى إصابة الملايين بالسرطان وأن تلك التهمة لم تفقدها احترامها تمامًا فيما شائعة العلاقة غير المشروعة كفيلة بجعلها منبوذة ووصفها بالساقطة.
نحن نعانى من خلل فى معايير القيم وعدم اتساق لمنظومتها، بسبب الخطاب الدينى والاجتماعى والثقافى السائد فى الفضاء العام.
تلك الموجة الهيستيرية بدت كمحاولة لإخفاء ما وصلنا إليه من حالة تراجع قيمى وأخلاقى وعكست ما بتنا عليه من تدهور للوعى وغياب لأى مستوى للثقافة؛ وهو ما يؤكده ذلك الصمت الذى ساد عندما تم تقديم مطربى المهرجانات بأدائهم وسلوكهم كعنوان رئيس للفن المصرى من خلال الاحتفاليات العامة وبرامج أغلب الفضائيات المصرية، فيما غيّب عن تلك الاحتفاليات والبرامج مطربون وفنانون جادون.
اللافت أيضًا أن أغلب من هاجم الفيلم استخدموا مفردات ومصطلحات تعكس حالة سلفية دينية غاية فى التشدد والتطرف وإن كانوا من المخالفين سياسيًا وبشدة للتيارات الدينية السلفية والإخوانية، إلا أنهم ظهروا متشبعين بتلك الأفكار.
البركان الذى تفجر ثم خمد سريعًا بسبب فيلم "أصحاب ولا أعز" جرس إنذار بلغ دوى دقاته المسامع فى كل أركان مؤسساتنا لتدرك طبيعة الحالة الدينية والثقافية التى بات عليها مجتمعنا؛ فرغم هذا الخمود السريع إلا أنه أرسل مع حممه رسائل تهديد صريحة لا ريب فيها لكل مبدع أو صاحب فكر جديد مختلف، وكل صاحب محاولة جادة لنقد تراثنا من الخطاب الدينى بهدف تجديده وتحديثه وتنقيته من الشوائب عالقة به.
فقد أصبح كل صاحب رأى فى فتوى قديمة أو تفسير لآية قرآنية جاوز عمره الألف عام متهم بمعاداة مؤسسة الأزهر الشريف وساعيًا لهدمها لأنها مازالت تتبنى تلك الفتوى وذلك التفسير؛ وبات كل عالم يقدم للجمهور فتاوى وآراء وتفاسير متعددة بمسألة واحدة مكروهًا لأنه خرج على ما يعتبره الأزهر إجماع أهل السنة والجماعة، لا معلمًا وموعيًا بالتنوع والتعددية التى ينطوى عليها التراث عملًا بقاعدة "فى اختلاف العلماء رحمة للأمة".
مجمل القول تلك الحالة الهيستيرية التى صاحبت الهجوم على فيلم "أصحاب ولا أعز" تعكس بيئة اجتماعية وثقافية لا تتسامح مع حرية الإبداع والفن، بيئة معادية لكل محاولة جادة لتجديد خطابنا الاجتماعى والثقافى والدينى والسياسى وهو ما ينبغى أن تنتبه له مؤسسات الدولة السياسية والثقافية والاجتماعية لتعمل على تغيير هذه البيئة وتبحث الآليات اللازمة لإحداث تغير جوهرى فى نوع الوعى السائد حتى تستعيد مصر مكانتها الريادية فى الفكر والثقافة والفن والإبداع والسياسة والصحافة والإعلام.
آراء حرة
بعد هدوء العاصفة..!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق