الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا مكاريوس يكتب: ملاحظات حول توبة أهل نينوي

الأنبا مكاريوس أسقف
الأنبا مكاريوس أسقف المنيا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ملاحظات حول توبة أهل نينوى

الأنبا مكاريوس

أسقف المنيا للأقباط الأرثوذكس 

قصة توبة أهل نينوى من أجمل القصص الواردة في الكتاب المقدس، كدلالة على عدل الله ومحبته، على شرور الانسان وتوبته، على الانسجام بين قوى الطبيعة والعمل معا لمجد الله، بين رفض النبي وإيمانه العميق بمحبة الله، حين تتطهر مدينة بالكامل بشر وحيوانات وحجر، حين انحنت مدينة أمام الله فرفع الله هامتها.دعونا نتوقف عند بعض المحطات في القصة:

1- الله يسعى للخاطئ ولو بالتحذير، لعله يرتدع فلا يهلك، ومن هنا فان مناداة يونان لم تكن تهديدا وإنما تحذير، فالأم التي تحذر ابنها الكسول من الرسوب لن تفرح برسوبه، والدولة التي تضع علامة تحذر من الاستمرار في السير في الطريق لن تسر فافتراس الوحوش للسائر. وهكذا الله لا يشاء موت الخاطئ، بل أن يرجع وتحيا نفسه. وها هو يبادر فيرسل نبيه إليهم.

2- أهل السفينة ليسوا أشرارًا تمامًا، إنهم وثنيون ولكنهم ليسو ملحدين، لقد خافوا من إله السماء، وصلوا كل منهم إلى آلهة، واعتذروا عما سيفعلونه، ثم قدموا ذبائح في النهاية، وطلبوا من الله ألا يأتى عليهم دم برىء، ولعلهم رجعوا الى الله بسبب يونان ونينوى.

3- صدق يونان وعمق إيمانه: بقدر ما كان «يونان» غير مطيع على ما يبدو إلا أنه كان صادقًا، مثلما كان واثقا في الله وحنوه، وانه سُيغلب من تحننه، وهو ما حدث بالفعل، ورغم أنه أخطأ في عدم طاعته إلا أن هروبه كان تأكيدًا على صفة الحنو والحب في الله، ولنتصور في المقابل أنه أطاع وذهب وهو غير مؤمن بالله بل وربما ساخر من التهديد!.

4- واستخدم الله هروب يونان للتأثير الإيجابي على أهل نينوى: فعندما حذر يونان شعب نينوى علموا أنه لم يكن يرغب في المجيء إليهم، وأنه هرب في البداية، وهذا أعطاه مصداقية لديهم، أولا لأنه لا مصلحة شخصية له، وثانيا لأن إلها عظيما هو الذي أعاده من جديد إليهم.

5- كما استخدم الحوت للسبب ذاته: فلم يسمع أهل نينوى ولا غيرهم، أن حوتا ابتلع إنسانا ليقذفه من جديد بعد أيام على الشاطئ، ومن ثم فالأمر خطير، فاجتمعوا إليه ليقفوا منه على قصة الحوت العجيب، وليسمعوا رسالته باهتمام.

6- صامت المدينة بكاملها: لأن الخطيئة أساءت لكل أحد ولكل شيء، وقد يبدو لأول وهلة أنه لا ذنب للحيوانات والطيور والبيئة بشرور الشعب في نينوى، وبالتالي صومهم، وقد يبدو أن أهل نينوى عندما صاموا انشغلوا تلقائيا عن الاهتمام بالحيوانات، ولكن الواقع أن الخطية تسيء إلى البشر بمن فيهم الرضع والى الكائنات الحية والى البيئة والجماد أيضا، ومن ثم شملت التوبة الجميع وكأن المدينة بكاملها تغتسل من الدنس، لقد كانت ضربة الابرص تنجس البيت، كما أن الله قال لآدم ملعونة الأرض بسببك، ومن ثم صارت تنتج شوكا وحسكا.. هكذا يسيء الأبوين لأولادهم بخطيتهم ويسيء الإنسان للكون كله.

7- عندما يكون الملك تقياً: تاب الملك فتبعه الشعب، وكما يضل بعض الملوك شعوبهم بزيغانهم عن الحق، هكذا ينجي البعض شعوبهم بحكمتهم واتضاعهم، مثلما فعل ملك نينوى والذي بلغه خبر ذلك النبي العجيب الذي قذفه حوت على شواطئهم. أن ما فعله ملك بابل لهو أعظم من الانتصار الحربي على عدو لهم، ولعل كان المقصود بقول البعض "الشعوب على دين ملوكهم"، شيء من هذا القبيل.

8- حميمية القصة: العناصر المتعددة في القصة، وتناقضات السلوك، جعلتها قصة حميمية، قصة العائلة بكاملها،اجتذبت جميع الأعمار وألهبت خيال الكثير من الأدباء والفنانين واللاهوتيين والنقاد، وما زالت القصة تتحول يوما بعد يوم من السرد التاريخي المجرد «رغم حقيقتها التاريخية» الى سلسلة من اللآلئ الثمينة، يمكن التوقف للتأمل عند كل آية وأحيانا عند كل كلمة، وما يزال كنز القصة هو الأكثر حميمية في الإنجيل.

وما تزال قصة يونان ونينوى هي الاكثر شعبية تناسب جميع الاعمار، وقد احتوت على شرائح كثيرة: «منها البشر، والحيوان، والحشرات، والماء، والشمس، والعواصف والأمواج، والنبات» تخاطب الروح والوجدان والجسد، عملت كل عناصرها بتنسيق عجيب لمجد الله.

9- التوبة ليست كافية: مهما كانت قوية، فقد كانت توبة أهل نينوى مضرب الأمثال في كل جيل، وصار أهل نينوى نموذجا هاما في التوبة، ومع ذلك فقد تحولت المدينة بعد مدة من الزمن إلى الشر، وتنبأ عليها الأنبياء وتدمرت تدميرا كاملا، وأصبحت أثرا بعد عين. التوبة تحتاج إلى استمرار وإلى اتضاع وتذكر دائم أن الإنسان يميل بطبيعته إلى السقوط.

10- ولكن ورغم كل الأدوار التي قام بها كل من عناصر الملحمة التاريخية، يبقى أن الله هو «بطل القصة الحقيقي» وهو الذي انتصر حبه، وهو الذي غُلب من تحننه لصالح الإنسان الذي «فيه لذته».

«الصوم والصلاة هما اللذان عمل بهما أهل نينوى، فرحمهم الله وغفر لهم خطاياهم ورفع غضبه عنهم». (قسمة الصوم الكبير)