تجاوز أورلاندو الخامسة والثمانين من عمره وما زال يتمتع بالصحة والعافية وخصوصًا بذاكرة حديدية تجعله يتذكر بدقة طفولته في حواري شبرا، حيث ولد مع شقيقته يولاندا المعروفة عالميًا تحت اسم داليدا الساحر.
كان أورلاندو واسمه الحقيقي برونو جيجليوتي شغوفا بالفن والموسيقى منذ نعومه أظفاره ولا عجب فإن والده كان عازفا للكمان في أوبرا القاهرة. وهكذا دخل أورلاندو في عدة فرق موسيقية في القاهرة والإسكندرية وأصبح معروفا لدى أهل الفن ومرتادي أماكن السهر وهنا لفت الفتى المصري ذو الأصول الإيطالية نظر مخرجي السينما، خاصة حسن الصيفي وكانت مشاركته هند رستم في فيلم فطومة عام ١٩٦١، حيث غنى فيه الأغنية التي تحمل عنوان الفيلم والتي ما زالت باقية في ذاكرتنا وخيالنا حتي الآن وربما أكثر من الفيلم نفسه.
عرفته في باريس عندما تقدم به العمر وأصبحت مهنته الوحيدة هي الحفاظ على تراث أخته داليدا وتسويق أغانيها وكل ما يخصها في العالم كله. وكنت أقوم بزيارته في مكتبه في حي مونمارتر، حيث كانت تسكن أخته وكان أهم هذه الزيارات واحدة قمت بها مع الأديب الكبير وصديق محمد سلماوي. ثم زيارات أخري ممتعة مع الصديق د. عبد الرحيم علي الذي لا تخطو قدماه مونمارتر أبدا دون زيارة لتمثال داليدا.
يحمل أورلاندو مصر وخصوصا حي شبرا في قلبه وما زال يتحدث لهجة أهل القاهرة وما زال يحلم بالعودة ولو مرة واحدة إلى مصر قبل أن يغادر هذا العالم.
غير أنه كان ولا يزال يتسارع في نفس أورلاندو الثقافات الثلاث التي خرج من عباءتها وهي المصرية والإيطالية والفرنسية فهو يعيش في باريس وهو فرنسي ومع ذلك فإنه يتكلم الفرنسية بلكنة إيطالية واضحة جدا. وهو يحمل ما هو حضارتان أوروبيتان لاتينيتان وهما الفرنسية والأوروبية، ولكنه وهو يعيش على تراث أخته التي غنت بالعربية ولعبت أدوارا هامة في السينما المصرية من سيجارة وكأس إلى اليوم السادس فإنه يعيش يوميا مع ذكرياته المصرية لأخته وتخونه لهجته في بعض الأحيان فتخرج منه ألفاظ مصرية في الغالب عندما يتعصب و«يتنرفز» فتخرج منه شتائم خفيفة باللهجة القاهرية المحببة إلى نفسه.
وعندما ساهم مع الكاتبة الكبيرة ومديرة دار نشر Les Orients إيزابيل بوديس في نشر كتالوج مصور عن حياة داليدا كانت أغلب هذه الصور عن حياتها في مصر وكان أورلاندو محكوم عليه أين يعيش بين الحضارات الثلاث وكأنه محكوم عليه بألا ينسى ماضي أخته في حواري شبرا ولا ماضيه هو بين كازينوهات الإسكندرية في الصيف ومسارح القاهرة في الشتاء.
الجميل في شخصية أورلاندو اليوم هو هذا الدفء الذي يشع من جنبات روحه وفي طريقة التحدث التي تلخص كل ثقافات البحر المتوسط فأورلاندو هو رجل يلخص حوار شمال المتوسط بجنوبه ويمثل حوار حضارات لاتينية عربية وهو حوار حي يخرج عن نطاق كل الندوات التي نقيمها نحن- معشر المثقفين- عن حوار الحضارات وحوار الأديان وحوار الثقافات ونحن نعرف أن الواقع شيء مختلف، وربما تكون في حياة واحدة كحياة أورلاندو تكثيف ناجح وساطع لكل ما نحلم به من أخوة ومصير مشترك مع أوروبا حتي لو ظل أورلاندو نفسه حائرا بين فطومة المصرية الشرقية وداليدا الإيطالية الفرنسية. حان الوقت الآن أن أكف عن الكتابة وتكفون عن القراءة لكي نستمتع بصوت أورلاندو يغني فطومة على رقص الساحرة هند رستم.
آراء حرة
مصريون عرفتهم في باريس (٢٧): أحاديث الجمعه من باريس.. أورلاندو الحائر بين فطومة وداليدا
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق