لم يكن الوسط الصحفي في يوم من الأيام خالي من المشاحنات والنزاعات، وإني لأتعجب من محاولة البعض تسفيه الجيل الحالي وعقد مقارنات بين أبناء هذا الجيل وأجيال أخرى، وكيف يكون صحيحا تلك المقارنات والظروف كانت مغايرة، حتى الأساتذة الكبار الذين نضرب بهم المثل في المهنية وبرغم الظروف التي كانت مهيأة لهم، كانت هناك نوازع نفسية ومصالح شخصية.
عبارة تجدها في كل مكان وسؤال يٌحاصرك أينما ذهبت: «أيعقل أن يكون هذا هو حال المهنة بعد هيكل ومصطفى أمين؟».. وكأن عقد الموهبة انفرط بموتهما وكأن الزمن توقف عند مرحلة معينة، وكل ما بعدهما بات لزاما عليه أن يتعبد في محراب الأساتذة فمداوة الإبداع قد نضبت والوحي انقطع وعلى جميع الأقلام حتى ألا تحاول، ربما سيغضب مني البعض ويعتبر ما أكتب تجرأ على الأساتذة، لكن ليعلم الجميع أنني أحترم كل صاحب قلم، بل احترم كل إنسان لكن لدي إيمان راسخ بأن من حق الأجيال الجديدة أن تحلم وأن يتم تهيأت السبل لها لتحقيق هذا الحلم، ثم الحكم عليها فهيكل ومصطفى أمين وغيرهما ساهمت الظروف التي مرت بها البلاد في تشكيل اسميهما.. نعم هناك تميز وموهبة لكن لو كان هما الأساس لما زهقت أرواح كثيرة وهي تركض بالحرف خلف حلم أن تجد سطرا تكتبه، الأمر غير قاصر على الصحافة ففي كل عام ومع معرض الكتاب تجد انتقادا للشباب، ولا أدري هل ننتقدهم لأنهم يحاولوا في زمن لا يمد أحد يده إليهم بالدعم! فمن كانوا أساتذة لم يكونوا كذلك إلا بعدما صنعوا تلاميذ ومريدين لهم عرفوا أنفسهم بهم، اليوم.. إلا من رحم ربي.. من يكتب يُمزق ما تبقى من صفحات بيضاء حتى لا يمنحها لغيره، من يحالفه الحظ يرشي الحظ حتى لا يٌقابل غيره، بل إن البعض يصوب سهام السخرية والنقد والهدم للقادمين خلفه ظنا أن في نجاح غيره إنطفاء وهجه.. أنا لا أكتب ذلك عن موقف شخصي لي ولا لأن في نفسي شئ، فأنا لا تفتر عزيمتي ولا أفقد أملي، ولكن ساءني حديث بعض الزملاء ورؤيتهم السوداوية للحياة وانكسار أحلامهم وابتعاد بعضهم عن مسار حلمه.. فأحببت أن أقول لهم لم يكونوا ملائكة ولسنا شياطين.. فحتى الأساتذة كانوا يخطأوون.. وإليكم الدليل
الأستاذ هيكل يضرب تصريحات
هل تصدق أن الأستاذ هيكل بكل ما كان عليه قد "ضرب تصريحات"!، هذا ليس اختلاقا لكنه حقيقة ذكرت بين أسباب تدهور العلاقة بينه وبين مصطفى أمين حيث أرجع البعض الخلافات بينهما إلى سنوات سبقت ثورة يوليو.. ومنها قضية «مؤتمر الجامعة العربية»، حينما نشر هيكل كلمات الملوك والأمراء على أنها «تصريحات خاصة» وقرر مصطفى أمين فصله لولا تدخل على أمين.
هيكل يتهم مصطفى أمين بالجاسوسية
لا يعرف البعض حتى الآن تفاصيل المعركة بين الكبار، فلعبة الكراسي حول الرؤوساء كل شئ فيها مٌباح حتى "الطعن في الظهر" فالقلم يكتب الحقيقة ويكتب الزيف، ومادام شهود الإثبات من الحبر فجائز أن يكون شهود النفي أيضا من الحبر.
في كتابه «بين الصحافة والسياسة» أشار الأستاذ هيكل إلى أنه حصل على تقرير مكتوب بخط يد الأستاذ مصطفى أمين يعترف فيه بالتجسس لصالح الأمريكان.
لكن ما هي الحكاية؟
الحكاية أن الأستاذ مصطفى أمين وجد نفسه يبتعد عن الرئيس جمال عبد الناصر، وأصبح هيكل الصحفي الأهم لدى الرئيس، ثم قام عبد الناصر بتعيين خالد محيي الدين في «أخبار اليوم»، ليقوم هو الآخر- في الوقت الذي كانت الدولة تتجه فيه نحو الإفراج عن الشيوعيين وإخراجهم من السجون- بتعيين عدد كبير منهم في «أخبار اليوم».
مأزق الأخوين علي ومصطفى أمين
لم يجد «علي» أمامه سوى السفر للعمل مراسلا للأهرام في لندن والغريب أن هيكل من ساعده في ذلك، بينما قرّر مصطفى أمين البقاء، وكان قد اكتسب علاقة وثيقة برجال السفارة الأمريكية في القاهرة، لأنه أثناء علاقته الجيدة بالرئيس كان يقدم إليه المعلومات والأخبار المهمة التي يستقيها من الأمريكان.
فكّر مصطفى أمين أن يعمل بشكل تطوعي مع الأمريكان ليجلب بعض المعلومات ليستعيد بها علاقته بعبد الناصر، لكنه أخطا في تقديره ففي هذا الوقت لم يكن هناك هدف للمخابرات الأمريكية سوى الإطاحة بعبد الناصر، اعتمادًا على عناصر من النظام القديم من إقطاعيين ورجال صناعة وغيرهم من كارهي عبد الناصر.
سقط مصطفى أمين في «شبك» صلاح نصر، الذي لم يتوان في تقديم صيده الثمين للرئيس عبد الناصر، فتم إلقاء القبض عليه، وتسارعت الأحداث ليحصل على حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد محاكمة عسكرية سريعة، ولم تشفع له مقالاته الثمانية التي كتبها في صفحة واحدة بالأخبار، قبل القبض عليه، ودعا فيها لإعادة انتخاب جمال عبد الناصر باسم الحرية والديموقراطية والشباب والعمال، كذلك لم تنجح وساطة الصحفي الكبير «سعيد أمين» ورئيس حكومة السودان «محمد محجوب»، لدى جمال عبد الناصر في الإفراج عنه.
الغريب أن هيكل والذي قيل أنه كان دائم التواجد مع مصطفى أمين، قد شن حملة في الأهرام مستنكرا جريمة مصطفى أمين.
وعن واقعة اتهام مصطفى أمين بالجاسوسية قال النائب العام، آنذاك، المستشار محمد عبد السلام فى مذكراته التى نشرها فيما بعد بعنوان (سنوات عصيبة عام 1975: «أٌبلغت بضبط مصطفى أمين وهو يمد المخابرات الأمريكية بمعلومات قيل إنها ضارة بأمن البلاد وأبديت رأيى أن كل معلومات القضية بعيدة كل البعد عن السرية ولا تنطوى على أى أضرار بمركز البلاد الحربى أو السياسى أو الاقتصادى، وأننى صارحت صلاح نصر مدير المخابرات ووزير العدل بدوى حمودة بذلك، ونصحتهما أنه ليس من المصلحة عمل ضجة حول اتهام صحفى معروف سينتهى الأمر فى قضيته بالبراءة إلا أن الرئيس عبد الناصر رأى أن تقدم القضية إلى محكمة عسكرية بدلًا من القضاء باعتبارها قضية سياسية، فوضعت أنا أمام الأمر الواقع الذى لم أملك دفعًا له».
قدم مصطفى أمين للمحاكمة بمحكمة أمن الدولة العليا برئاسة الفريق الدجوى، وقال صلاح نصر في شهادته التي نشرها بعد ذلك في مؤلفه "عملاء الخيانة وحديث الإفك"، إن مصطفى أمين كان على علاقة بالمخابرات الأمريكية حتى قبل ثورة يوليو 1952.
مصطفى أمين لـموسى صبري: «الحق علي قبل ما يروح لهيكل»
يتجدد الأمل في الإفراج عن مصطفى أمين بعد وفاة جمال عبد الناصر وتولي الرئيس السادات مقاليد الحكم
كان السادات يرفض الحديث في أمر مصطفى أمين رغم محاولات موسى صبري وأحمد رجب، لكن الفرصة كانت مناسبة في فرح كريمته ومن ثم تجمع حوله «موسى صبري» و«علي الجمال» و«أحمد رجب» و«محسن محمد» ومعهم الفنان «عبد الحليم حافظ»، ليلحوا عليه جميعًا من أجل الإفراج عن مصطفى أمين، وسط صمت من الرئيس وتأييد حار من زوجته السيدة جيهان.
وعند ظهر اليوم التالي فُوجئ موسى صبري باتصال من السادات ليخبره أنه قرر الإفراج عن مصطفى أمين، بل وأعطى تعليمات بإعفائه من الإجراءات حتى يكون بمنزله في نفس اليوم.
لم يكد موسى صبري يسمع الخبر حتى أسرع يحمله في سيارته الصغيرة إلى قصر العيني، وهناك رأى مصطفى أمين لأول مرة منذ القبض عليه، تلّفه بطانية فوق سرير صغير، فأبلغه بخبر الإفراج واحتضنه ليبكيا معًا.
كان كل همّ مصطفى أمين حينئذ أن يُسرع موسى صبري إلى علي أمين في مكتبه بدار الصيّاد في ميدان التحرير، كي يبلغه بالخبر ويمنعه من تلبية موعده مع هيكل في الأهرام وطلب وساطته للإفراج عن مصطفى أمين، حتى لا يدّعي هيكل فيما بعد أنه هو منْ أفرج عنه، وبالفعل نجح موسى صبري في الوصول لعلي أمين في الوقت المناسب وإبلاغه بالخبر.
لم تنفرج الأزمة فقط بخروج مصطفى أمين من السجن، فبعد أن كان كل طلب علي أمين أن يعمل فقط مع الدكتور حاتم الذي عيّنه السادات رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام خلفًا لهيكل، قرر السادات تعيين علي أمين مديرًا لتحرير الأهرام، قائلًا: «هو علي أمين مش عارف قيمته ولا إيه!». كذلك وافق السادات على عودة مصطفى أمين للعمل بـ«أخبار اليوم»، والذي كان كل طلبه هو الآخر غرفة صغيرة يستقبل بها زواره هناك».
«إحسان عبد القدوس يترك الأخبار للأخوين»
حتى إحسان عبد القدوس الذي اشترط كتابة مقاله في يسار الصفحة الأولى بأخبار اليوم ليترك لمقال مصطفى أمين النصف الأيمن، لم تفلح محاولته لتعديل أول مقال كتبه مصطفى أمين، ولم يتراجع فقط عن قراره، بل ترك «أخبار اليوم» بأكملها لمصطفى أمين بعد أن رأى مدى التفاف أبنائها حوله، فنقله السادات للأهرام، وأعاد علي أمين للعمل مع توأمه بالأخبار.
ودارت الأيام… واقترب علي أمين جدًا من السادات، فأصبح يصحبه في رحلاته الخارجية، ويمده بالأخبار، بينما يكتب مصطفى أمين بحرارة مُؤيدًا للسادات.
ولكن تبدلت الأحوال، وأتت البداية على يد وزير الإعلام «كمال أبو المجد» الذي أثّر على قرار الرئيس، فرفض فكرة مؤتمر صحفي- مُذاع تليفزيونيًا- رغب التوأم في عقده في حضور مُمثلي الصحف الأجنبية من أجل إعلان نتيجة تحقيقات المدعي العام الاشتراكي، والذي قرر محو جريمة التخابر الخاصة بمصطفى أمين قبل أن يُصدِر السادات قرارًا بالعفو عنه ورفع الحراسة.
ثم انطلقت حملة عنيفة ضد التوأم في مجلة أسبوعية تُطبع في الأهرام، فسّر البعض أنها كانت بمباركة السادات، بعد هجوم علي أمين على الوزير كمال أبو المجد والمشادة التي وقعت بينهما، والتي فقد خلالها أمين أعصابه وقال للوزير عبارات قاسية.
كتب التوأم مقالات تحمل هجومًا شرسًا على جمال عبد الناصر، مما وضع السادات في موقف مُحرج، وقد فسّر البعض أن مقالات التوأم كُتبت برضا السادات، حتى صحف المعارضة اتهمته باستخدام التوأم و«جلال الحمامصي» في تشويه جمال عبد الناصر، فعزل السادات الحمامصي ولم يعده مرة أخرى للكتابة إلا بعد توسط موسى صبري، وذلك قبل أن يُخرِجه من رئاسة التحرير هو والتوأم ومعهم «حسين فهمي»، وقام بتعيين موسى صبري مديرًا للتحرير بجانب منصبه كرئيس لمجلس إدارة أخبار اليوم، فحملت ترويسة الصفحة الأولى لأخبار اليوم اسم موسى صبري فقط، بعد أن كانت تحمل اسم الأربعة.
«عادي أهوه.. إمبارح نقد واليوم مدح في الوفد»
بدأ مصطفى أمين ينتهج سياسة المعارضة وكذلك الحمامصي، فكتب «مرحبًا بالوفد الجديد»، وذلك بعد أن سمح السادات بتكوين الأحزاب، واستشاط الرئيس غضبًا لدرجة أنه اتصل بموسى صبري قائلًا: «لقد عرفنا فساد الوفد من مقالات مصطفى أمين في أخبار اليوم… الآن يكتب مرحبًا بالوفد الجديد؟ سبحان الله!».
ولم يتوقف مصطفى أمين، فهاجم الحزب الوطني بعد دعوة السادات لتأليفه، ووضع الرئيس في موقف محرج أمام النواب الذين يؤيدونه، فقام السادات بمنع مصطفى أمين بعدها من الكتابة لثلاثة أسابيع كاملة، استمرت حتى عودته من كامب ديفيد، ثم وجّه له دعوة لحضور حفل زفاف نجله جمال، فأقنعه أحمد رجب وموسى صبري بقبولها، ليُفاجأ الجميع بمدى الترحاب والحفاوة التي استقبل بها الرئيس وأسرته مصطفى أمين، وتمر سحابة الخلاف بسلام.
«عمنا أحمد بهاء الدين طلع ما يعرفش الحكاية»
ويقول أحمد بهاء الدين، عن علاقة السادات بعلي ومصطفى أمين: «رغم أن السادات ربما كان أقدر من رأيت فى حياتى على عدم إظهار حقيقة مشاعره، لا ينازعه فى هذه القدرة إلا الصديقان القديمان والعدوان اللدودان مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل، رغم ذلك فإنه لم يكن صعبًا أن أدرك أن السادات لا يحب مصطفى وعلى أمين على المستوى الشخصى، بل كان يكن لهما شعورًا عدائيًا خفيًا، وكانت استعانته بهما لضرورة سياسية».
في كتابه «محاوراتى مع السادات» ينقل بهاء الدين ما قاله له السادات عن إقالته لعلي أمين من الأهرام: « كنت أعرف من البداية أن على أمين لا يصلح للأهرام، والأهرام لا يصلح له، لكننى عندما قررت إخراج هيكل قررت أن أقرن ذلك بصدمة كهربائية لكل من فى الأهرام، إن هيكل لم يكن رئيس تحرير جريدة، ولكنه جعل من الأهرام حزبًا وأخطبوطًا له أجهزته، وصار كل واحد فى الأهرام يظن أنه هيكل صغير، يشارك فى حكم البلاد، ووجدت أن الصدمة الكهربائية التى تجعلهم يفيقون هى أن أرسل لهم على أمين بالذات، عدو هيكل اللدود».
قاطعه بهاء قائلًا، إنه لم يكن يعرف خصومة هيكل بمصطفى وعلى أمين، إلا بعد أن جاء «على» إلى الأهرام، وبدأ حملته هو ومصطفى ضد هيكل.. ضحك السادات، ورد قائلًا: «هل تحاول أن تقنعنى أنك ساذج إلى هذا الحد؟».. يذكر بهاء: «أقسمت له على صدق ما أقول، فقال لى: «كيف ينسى على ومصطفى لهيكل أنه جردهما أولًا من العلاقة الوثيقة بعبدالناصر، وجردهما ثانيًا من العلاقة الوثيقة بالأمريكان، وصارت اتصالات عبدالناصر المهمة مع الأمريكان من خلال هيكل وليست من خلال مصطفى وعلى.
وأخيرا لم أختلق واقعة للانتصار لجيل على حساب الآخر ولا لتشويه جيل من الأساتذة فلا يمكن لعاقل أن يفعل ذلك، ولكن فقط أردت أن أقول: «لقد ماتت أجيال جراء عقد المقارنات واستدعاء الأرواح وانشغالكم بالماضي عن الحاضر حتى في تلك المؤسسات العريقة.. فكفاكم»
المصادر
محمد حسنين هيكل«بين الصحافة والسياسة»
أحمد بهاء الدين«محاوراتى مع السادات»
«50 عاما في قطار الصحافة» مذكرات موسى صبري
«عملاء الخيانة وحديث الإفك» صلاح نصر