دخلت العلاقات بين الكنسية الكاثوليكية والإسلام السني والتي كانت فاترة من قبل منعطفًا مهمًا في الآونة الأخيرة على أيدي البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيب. فبعد أن كانت العلاقات بين رأس الكنيسة الكاثوليكية والإمام الأكبر متوقفة ولا تحرز تقدمًا ملموسًا في مسار الحوار الديني، وعلى النقيض من الاتجاه السلبي السائد في الشرق والغرب، قرر الزعيمان الدينيان استعادة مسار الحوار وتبادل الزيارات، الأمر الذي أدى في النهاية إلى صداقة عميقة بين الزعيمين، أصبحت بعد ذلك مصدرًا لعديد من المبادرات والبرامج، لا سيما وأن تلك الصداقة كانت مسبوقة برغبة في التقارب والتفاهم. فقد نظم الطرفان بعض اللقاءات في روما والقاهرة وتبادلوا كذلك بعض الرسائل، حتى توّج اللقاء الأخير الذي عقد في أبوظبي في فبراير 2019 بالتوقيع على وثيقة تاريخية للأخوة الإنسانية بهدف ترسيخ التعايش السلمي في العالم: إنه إعلان أبوظبي الذي أكدوا فيه على الرباط الذي يجمع كافة الأديان.
الهدية والإهداء
كيف رأت هذه الوثيقة النور؟ هذا التساؤل يجيب عليه المستشار محمد عبد السلام في كتابه "البابا والإمام الأكبر – الطريق الصعب"، الذي نشر عام 2020 باللغتين العربية والإنجليزية، ويُترجم حاليًا إلى اللغة الألمانية، وقد قدم لي المستشار عبد السلام في زيارته الأخيرة لبرلين قبل وقت قصير نسخة من هذا الكتاب، وكتب عليه إهداء شخصي أعرب فيه عن رغبته في أن تستمر الصداقة بين الإمام الأكبر والبابا وأن تلقى فكرة الأخوة التي أطلقوها وتقديرًا اهتمامًا.
بيئة المؤلف
يعكس الكتاب تجربة حية وخبرة عايشها المؤلف، وجمع فيها بين السيرة الذاتية والرؤية الثاقبة للزعيمين الدينيين. ويتعرف القارئ من خلال الكتاب على المحيط الذي عمل فيه المستشار عبد السلام، والذي شكل حجر الزاوية في نزاهته وموقفه كشخص مسؤول، فتعليمه الأزهري ذو الطابع المتسامح والمنفتح وكذلك عمله الذي امتد لسنوات مع الإمام الأكبر أحمد الطيب كلها أمور ساهمت في تكوين شخصيته بشكل كبير. وهو يقدم نظرة تفصيلية لما وراء كواليس الوثيقة وينقل لنا رؤى متعمقة حول الأحداث والشخصيات والأحداث الهامة، ويمكن للقارئ معايشة جميع تلك الأحداث وكأنه يراها من خلال مطالعته للتسجيلات والصور التاريخية المنشورة في الجزء الأخير من الكتاب.
جميع الكلمات التي ألقتها الشخصيات المعروفة من السياسيين والعلماء وكذلك المقدمة التي ألقاها الزعيمان اللذان وقعا على الوثيقة تؤكد بشكل خاص على أهميتها البالغة. فعلى سبيل المثال تصف الدكتورة عزة كرم، الأمين العام لمنظمة الأديان من أجل السلام، أسلوب المستشار محمد عبد السلام بأنه "تجسيد للمشاركة بقلم القاضي وعينه وقلبه". لقد كانت هناك حاجة لقيم داخلية تدفع نحو الوقوف على أوجه القصور ومعالجتها وخلق الحماس عند الناس لتبني هذه الرؤى. يمتلك المستشار محمد عبد السلام هذه القيم، وهي بذاتها التي مكنته أن يكون بمثابة رسول سلام يقوم بمسؤولياته في خدمة الإنسانية بتفانٍ كبير، ويسعى لتعزيز الحوار وتحديد الثغرات من أجل تطوير نافع.
تنعكس القيم الداخلية كذلك في صفات الزعيمين الدينيين، فأفكارهما وأفعالهما هي نتاج المبادئ الإيمانية المتجذرة بداخلهم، والتي يعتبرونها المورد الذي ينهلون منه بشكل يثير الإعجاب، ويرجون بها عالَمًا يعيش في تناغم وتنوع، ويؤكدون بها على رباط مشترك لأسرة إنسانية واحدة.
ترمز "وثيقة الأخوة الإنسانية" إلى هذه الجهود وتتبع ذات المبادئ التي يتبناها مؤلفوها من أجل الوصول إلى هدف السلام العالمي، فالوثيقة تجمع بين العناصر والشروط الأساسية للتسامح والحوار والتعايش. ويمكن اعتبار توقيع الإمام الطيب والبابا فرنسيس على هذه الوثيقة بمثابة علامة بارزة في الحوار بين الأديان، فوثيقة الأخوة تتويج للشراكة التي بدأوها، والتي يصفها عبد السلام بأنها "تطور طبيعي" للعلاقة المتناغمة بين الزعيمين الدينيين.
الصداقة تعني بذل الجهد
لقد لعبت الجهود الدؤوبة التي بذلها المؤلف وكذلك السكرتير الخاص للبابا، يونس لحظي جيد، اللذان يحظيان باحترام وثقة كبيرين من الجانبين، دورًا رئيسًا في هذا النجاح. وكما يشير المفكر الأستاذ الدكتور مصطفى حجازي بأهمية الوثيقة فإنه يؤكد على تقديره الكبير للمسؤولين، مؤكدًا أن القارئ يثق في نبل الأهداف "من خلال الأمانة والصدق التي يتمتع بها من سلكوا هذا طريق."
وقد تم تنظيم هذا الاجتماع التاريخي في احتفال احتضنته عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث وقع الاختيار على هذا المكان لعقد المؤتمر العالمي لإصدار الوثيقة، فالإمارات تعتبر دولة رائدة في منطقتها في تبني مبادرات التسامح والانفتاح. فقد أكدت الإمارات رعايتها لإبرام الوثيقة، وقامت بتشكيل "اللجنة العليا للأخوة الإنسانية" لمواجهة التحديات وترجمة الرؤية الخاصة بالوثيقة إلى واقع عملي.
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى مشاريع مماثلة، فعلى سبيل المثال المشروع الذي بدأناه بالفعل "بيت العائلة الإبراهيمية". ففي الأوقات التي يتم فيها تمجيد الفكر النفعي بشكل أساسي والسعي وراء تحقيق أهداف اقتصادية بحجة أنها صمام الأمان لعالم حر، تبدو مثل هذه المبادرات أكثر أهمية من أي وقت مضى، ذلك لأنها تفتح الأبواب للخروج من هذا الوهم المشوش، وإظهار نظرة بديلة للعالم وللتساؤلات الملحة للبشرية، مبادرات تدعوا إلى العودة إلى قيم الاحترام والتسامح والعدالة والحرية، تمامًا كما تعني كلمة "دين"، المشتقة من اللاتينية، ارتباطًا بين الإنسان وربه، وترتبط انطلاقًا من ذلك، بالقيم المذكورة. يدعو البابا فرانسيس إلى النظر للأديان ليس كونها مشكلة، بل كجزء من الحل "لتحويل المنافسة إلى تعاون".
أما الإمام الأكبر الطيب فقد كرس نفسه لـ "العمل والتعاون من أجل ترسيخ التعايش وإعادة مسار الحوار الديني واحترام جميع المعتقدات الإنسانية وحمايتها"، تلك المعتقدات التي ينبغي أن تركز على القواسم المشتركة لخلق أساس مشترك للتضامن، سواء في الحياة اليومية أو على مستوى العمل. فقط عبر هذا الطريق يمكن (بل يجب) الحفاظ على الهوية الذاتية مع احترام هوية الآخر في ذات الوقت. وانطلاقًا من هذه الرؤى يدين كلا الزعيمين الممارسات الإرهابية وخطابات التطرف والعنف والظلم في جميع أنحاء العالم. هكذا حظيت "وثيقة الأخوة الإنسانية" قبولًا واستحساناً في جميع أنحاء العالم.
تعليقات على الوثيقة في كتاب المستشار عبد السلام
شخصيات شهيرة علقت على الوثيقة وروجت لها، منها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، الذي كتب يقول: "سنبذل قصارى جهدنا لتشجيع الأمم المتحدة على ضمان وصول هذه الوثيقة لكل مكان ولجميع الناس". وكتب السيد ميجيل أنجيل موراتينوس، الدبلوماسي الإسباني المنشأ والممثل السامي للأمم المتحدة في بيان له مؤكدًا على التأثير الاستثنائي للوثيقة أنها "واحدة من أهم الوثائق التاريخية في القرن الحادي والعشرين"، ويتابع: "تاريخية، لأنه لم يسبق في التاريخ الحديث أن وجدت وثيقة من هذا النوع، يشتركان في تأليفها أبرز شخصيتين دينيتين، يمثلان العقيدة الإسلامية السنية والكاثوليكية المسيحية، ويوقعان عليها معًا."
ويقول المفكر المشهور رضوان السيد عن كتاب عبد السلام، الذي احتوى على هذه التعليقات وغيرها: "الكتاب يركز أيضا على المغزى التاريخي للوثيقة ووجهات النظر المستقبلية التي تفتحها لمعتنقي الديانتين وللعالم كله". وقد اتخذ رئيس وزراء لبنان السابق فؤاد السنيورة خطوات عملية، حيث بادر بتشكيل لجنة في لبنان لتنفيذ اهداف الوثيقة. في الحقيقة، لقد أصبح الكتاب دليلاً للحوار وقدم نوعًا من الإرشاد بدوافع ومبادرات نموذجية للأجيال القادمة، فضلاً عن الفاعلين المدنيين والمؤسسات الدينية. إنه يعج بالرؤى العميقة والحكمة من جانب صانعي السلام الدينيين، الذين لا يعقدون مؤتمرات واجتماعات رسمية فحسب، بل يهتمون بالخير الدائم للبشرية.
أما المفكر والسياسي المعروف الأستاذ الدكتور طارق متري فيصف العلاقة بين الزعيمين الدينيين بأنها "لقاء القلوب" التي لها الأولوية على "حوارات الأفكار"، ونادرًا ما تلتقي بسبب طبيعتها التي لا تحتاج إلى لقاءات مباشرة وبسبب اهتماماتها المتباينة. أخيرًا وليس آخرًا، يرى الدكتور متري أن الزعيمين الدينيين يتحدثان لغة واحدة مشتركة يعبرون بها عن خواطرهم المشتركة.
وقد علق العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة عضو المجلس العلمي الأعلى بالمملكة المغربية في سياق هذا المشروع: “إن الكلمة العربية "إنسان" مذكورة في القرآن أكثر من 200 مرة. بالإضافة إلى ذلك، يشير القرآن إلى الإنسان باستخدام مصطلحات عامة مختلفة، مثل "بشر"، "بني آدم"، و"عبد الله". وعندما قدم القرآن التاريخ الديني للبشرية، لم يقتصر في حديثه عن النبوة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل أكد أن رسالة الإسلام هي الرسالة التي حملها الأنبياء من بداية البشرية إلى نهايتها. يقول الله تعالى: "قل (أي يا محمد) ما كنت بدعًا بين الرسل" (سورة الأحقاف، آية 9)، ويقول: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا" (سورة النساء، آية 163)، والإسلام يحرم على معتنقيه إنكار أيًا من هذه النبوات، بل إن القرآن يذكر خمسة وعشرين نبيًا ورسولًا ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بها جميعاً.
وكما يقول الحاكم العام السابق لكندا، ينبغي علينا في هذا الوقت، أكثر من أي وقت آخرٍ مضى، "توحيد الجهود والأصوات من أجل السلام العالمي"، وكما يوحي عنوان الكتاب، فإن الطريق إلى الهدف وعر وتعتريه أخطار وعقبات، والوثيقة هي الخطوة الأولى نحو مستقبل أكثر تفاؤلاً.
وفي الختام، يمكن تلخيص الرسالة، التي أراد المستشار محمد عبد السلام إيصالها، في إحدى نداءاته التي قال فيها: طالما أن هناك تطلعات كبيرة ودوافع سامية وإرادة حقيقية واحترام صادق، فإن المواقف والتوقعات والنتائج يمكن أن تكون واعدة بل ومذهلة بصورة تتجاوز حدود الزمان والمكان.